فصل: فصل‏:‏ سقوط الكفارة بالعجز عن خصالها الثلاث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **


كتاب الصيام

الصيام في اللغة‏:‏ الإمساك يقال‏:‏ صام النهار إذا وقف سير الشمس قال الله تعالى إخبارا عن مريم‏:‏ ‏{‏إني نذرت للرحمن صوما‏}‏ أي صمتا لأنه إمساك عن الكلام‏,‏ وقال الشاعر‏:‏

خيل صيام وخيل غير صائمة ** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

يعني بالصائمة‏:‏ الممسكة عن الصهيل والصوم في الشرع‏:‏ عبارة عن الإمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص يأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- وصوم رمضان واجب‏,‏ والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وأما السنة فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏بني الإسلام على خمس‏)‏ ذكر منها صوم رمضان‏,‏ وعن طلحة بن عبيد الله ‏(‏أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثائر الرأس فقال‏:‏ يا رسول الله أخبرني ماذا فرض الله علي من الصيام‏؟‏ قال‏:‏ شهر رمضان قال‏:‏ هل علي غيره‏؟‏ قال‏:‏ لا إلا أن تطوع شيئا قال‏:‏ فأخبرني ماذا فرض الله علي من الزكاة‏؟‏ فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرائع الإسلام قال‏:‏ والذي أكرمك لا أتطوع شيئا‏,‏ ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق‏)‏ متفق عليهما وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان‏.‏

فصل‏:

روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة‏)‏ متفق عليه وروي عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تقولوا جاء رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى‏)‏ فيتعين حمل هذا على أنه لا يقال ذلك غير مقترن بما يدل على إرادة الشهر لئلا يخالف الأحاديث الصحيحة والمستحب مع ذلك أن يقول‏:‏ شهر رمضان‏,‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏}‏ واختلف في المعنى الذي لأجله سمي رمضان فروى أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما سمي رمضان لأنه يحرق الذنوب‏)‏ فيحتمل أنه أراد أنه شرع صومه دون غيره ليوافق اسمه معناه وقيل‏:‏ هو اسم موضوع لغير معنى‏,‏ كسائر الشهور وقيل غير ذلك‏.‏

فصل:

والصوم المشروع هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس روي معنى ذلك عن عمر‏,‏ وابن عباس وبه قال عطاء وعوام أهل العلم وروي عن علي رضي الله عنه‏,‏ أنه لما صلى الفجر قال‏:‏ الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود وعن ابن مسعود نحوه وقال مسروق‏:‏ لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق وهذا قول الأعمش ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إن بلالا يؤذن بليل‏,‏ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم‏)‏ دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال‏:‏ هذا قول جماعة علماء المسلمين ‏.‏

مسألة‏:‏

قال أبو القاسم‏,‏ -رحمه الله-‏:‏ ‏[‏ وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما طلبوا الهلال فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم ‏]‏ وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان‏,‏ وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم ويسلموا من الاختلاف وقد روى الترمذي عن أبي هريرة‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏أحصوا هلال شعبان لرمضان‏)‏ فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يكن لهم صيام ذلك اليوم‏,‏ إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم أو صوم يوم الخميس‏,‏ أو صوم آخر يوم من الشهر وشبه ذلك إذا وافق صومه أو من صام قبل ذلك بأيام‏,‏ فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صياما فليصمه‏)‏ متفق عليه وقال عمار‏:‏ ‏(‏من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح وكره أهل العلم صوم يوم الشك واستقبال رمضان باليوم واليومين لنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه وحكي عن القاسم بن محمد‏,‏ أنه سئل عن صيام آخر يوم من شعبان هل يكره‏؟‏ قال‏:‏ لا إلا أن يغمى الهلال واتباع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى فأما استقبال الشهر بأكثر من يومين فغير مكروه‏,‏ فإن مفهوم حديث أبي هريرة أنه غير مكروه لتخصيصه النهي باليوم واليومين وقد روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏إذا كان النصف من شعبان فأمسكوا عن الصيام حتى يكون رمضان‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح إلا أن أحمد قال‏:‏ ليس هو بمحفوظ قال‏:‏ وسألنا عنه عبد الرحمن بن مهدي‏,‏ فلم يصححه ولم يحدثني به وكان يتوقاه قال أحمد‏:‏ والعلاء ثقة لا ينكر من حديثه إلا هذا لأنه خلاف ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصل شعبان برمضان ويحمل هذا الحديث على نفي استحباب الصيام في حق من لم يصم قبل نصف الشهر‏,‏ وحديث عائشة في صلة شعبان برمضان في حق من صام الشهر كله فإنه قد جاء ذلك في سياق الخبر فلا تعارض بين الخبرين إذا‏,‏ وهذا أولى من حملهما على التعارض ورد أحدهما بصاحبه والله أعلم وفي كلام الخرقي اختصار وتقديره‏:‏ طلبوا الهلال‏,‏ فإن رأوه صاموا وإن لم يروه وكانت السماء مصحية لم يصوموا فحذف بعض الكلام للعلم به اختصارا‏.‏

فصل‏:‏

ويستحب لمن رأى الهلال أن يقول ما روى ابن عمر قال‏:‏ ‏(‏كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى الهلال قال‏:‏ الله أكبر‏,‏ اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى‏,‏ ربي وربك الله‏)‏ رواه الأثرم‏.‏

فصل‏:‏

وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم‏:‏ إن كان بين البلدين مسافة قريبة‏,‏ لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما وإن كان بينهما بعد‏,‏ كالعراق والحجاز والشام فلكل أهل بلد رؤيتهم وروي عن عكرمة أنه قال‏:‏ لكل أهل بلد رؤيتهم وهو مذهب القاسم‏,‏ وسالم وإسحاق لما روى كريب قال‏:‏ ‏(‏قدمت الشام‏,‏ واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة‏,‏ ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال‏,‏ فقال‏:‏ متى رأيتم الهلال‏؟‏ قلت‏:‏ رأيناه ليلة الجمعة فقال‏:‏ أنت رأيته ليلة الجمعة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم ورآه الناس وصاموا‏,‏ وصام معاوية فقال‏:‏ لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت‏:‏ ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه‏؟‏ فقال‏:‏ لا هكذا أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح غريب ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ ‏(‏وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي لما قال له‏:‏ الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏ وقوله للآخر لما قال له‏:‏ ماذا فرض الله علي من الصوم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏شهر رمضان‏)‏ وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان‏,‏ وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان ما بين الهلالين‏,‏ وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق‏,‏ ووجوب النذور وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص والإجماع‏,‏ ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان فأما حديث كريب فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده‏,‏ ونحن نقول به وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول وليس هو في الحديث فإن قيل‏:‏ فقد قلتم إن الناس إذا صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوما‏,‏ ولم يروا الهلال أفطروا في أحد الوجهين قلنا‏:‏ الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أننا إنما قلنا يفطرون إذا صاموا بشهادته‏,‏ فيكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته وهاهنا لم يصوموا بقوله فلم يوجد ما يجوز بناء الفطر عليه الثاني‏,‏ أن الحديث دل على صحة الوجه الآخر‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان ‏]‏ اختلفت الرواية عن أحمد -رحمه الله- في هذه المسألة‏,‏ فروي عنه مثل ما نقل الخرقي اختارها أكثر شيوخ أصحابنا وهو مذهب عمر‏,‏ وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة‏,‏ وأنس ومعاوية وعائشة‏,‏ وأسماء بنتي أبي بكر وبه قال بكر بن عبد الله وأبو عثمان النهدي‏,‏ وابن أبي مريم ومطرف وميمون بن مهران‏,‏ وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا‏,‏ وإن أفطر أفطروا وهذا قول الحسن وابن سيرين لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏الصوم يوم تصومون‏,‏ والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون‏)‏ قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة ومعظم الناس قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب وعن أحمد رواية ثالثة‏:‏ لا يجب صومه‏,‏ ولا يجزئه عن رمضان إن صامه وهو قول أكثر أهل العلم منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي‏,‏ ومن تبعهم لما روى أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته‏,‏ فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين‏)‏ رواه البخاري وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته‏,‏ فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين‏)‏ رواه مسلم وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏نهى عن صوم يوم الشك‏)‏ متفق عليه وهذا يوم شك ولأن الأصل بقاء شعبان فلا ينتقل عنه بالشك ولنا ما روى نافع عن ابن عمر‏,‏ قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له‏)‏ قال نافع‏:‏ كان عبد الله بن عمر إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما‏,‏ بعث من ينظر له الهلال فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا‏,‏ وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما رواه أبو داود ومعنى اقدروا له‏:‏ أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قدر عليه رزقه‏}‏ أي ضيق عليه وقوله‏:‏ ‏{‏يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما وقد فسره ابن عمر بفعله وهو راويه وأعلم بمعناه‏,‏ فيجب الرجوع إلى تفسيره كما رجع إليه في تفسير التفرق في خيار المتبايعين وروي عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏قال لرجل‏:‏ هل صمت من سرر شعبان شيئا‏؟‏ قال‏:‏ لا وفي لفظ‏:‏ أصمت من سرر هذا الشهر شيئا‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فإذا أفطرت فصم يومين‏)‏ متفق عليه وسرر الشهر‏:‏ آخره ليال يستتر الهلال فلا يظهر ولأنه شك في أحد طرفي الشهر لم يظهر فيه أنه من غير رمضان‏,‏ فوجب الصوم كالطرف الآخر قال علي وأبو هريرة وعائشة‏:‏ لأن أصم يوما من شعبان‏,‏ أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ولأن الصوم يحتاط له ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به‏,‏ فإنه يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة‏:‏ ‏(‏فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين‏)‏ وروايته أولى بالتقديم‏,‏ لإمامته واشتهار عدالته وثقته‏,‏ وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر‏:‏ ‏(‏فاقدروا له ثلاثين‏)‏ مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه والنهي عن صوم الشك محمول على حال الصحو‏,‏ بدليل ما ذكرناه وفي الجملة لا يجب الصوم إلا برؤية الهلال أو كمال شعبان ثلاثين يوما‏,‏ أو يحول دون منظر الهلال غيم أو قتر على ما ذكرنا من الخلاف فيه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ولا يجزئه صيام فرض حتى ينويه أي وقت كان من الليل ‏]‏ وجملته أنه لا يصح صوم إلا بنية إجماعا فرضا كان أو تطوعا‏,‏ لأنه عبادة محضة فافتقر إلى النية كالصلاة‏,‏ ثم إن كان فرضا كصيام رمضان في أدائه أو قضائه والنذر والكفارة اشترط أن ينويه من الليل عند إمامنا ومالك‏,‏ والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يجزئ صيام رمضان وكل صوم متعين بنية من النهار لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة‏:‏ ‏(‏من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه‏,‏ ومن لم يكن أكل فليصم‏)‏ متفق عليه وكان صوما واجبا متعينا ولأنه غير ثابت في الذمة فهو كالتطوع، ولنا ما روي ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن الزهري‏,‏ عن سالم عن أبيه عن حفصة‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له‏)‏ وفي لفظ ابن حزم‏:‏ ‏(‏من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له‏)‏ أخرجه النسائي‏,‏ وأبو داود والترمذي وروى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة‏,‏ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له‏)‏ وقال‏:‏ إسناده كلهم ثقات وقال في حديث حفصة‏:‏ رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري‏,‏ وهو من الثقات الرفعاء ولأنه صوم فرض فافتقر إلى النية من الليل كالقضاء فأما صوم عاشوراء‏,‏ فلم يثبت وجوبه فإن معاوية قال‏:‏ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول‏:‏ ‏(‏هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه‏,‏ وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر‏)‏ متفق عليه فلو كان واجبا لم يبح فطره‏,‏ فإنما سمى الإمساك صياما تجوزا بدليل قوله‏:‏ ‏(‏ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه‏)‏ ولم يفرق بين المفطر بالأكل وغيره وقد روى البخاري‏,‏ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر رجلا‏:‏ أن أذن في الناس ‏(‏أن من كان أكل فليصم بقية يومه‏)‏ وإمساك بقية اليوم بعد الأكل ليس بصيام شرعي وإنما سماه صياما تجوزا ثم لو ثبت أنه صيام فالفرق بين ذلك وبين رمضان أن وجوب الصيام تجدد في أثناء النهار‏,‏ فأجزأته النية حين تجدد الوجوب كمن كان صائما تطوعا فنذر إتمام صوم بقية يومه‏,‏ فإنه تجزئه نيته عند نذره بخلاف ما إذا كان النذر متقدما والفرق بين التطوع والفرض من وجهين‏:‏ أحدهما‏,‏ أن التطوع يمكن الإتيان به في بعض النهار بشرط عدم المفطرات في أوله بدليل قوله عليه السلام في حديث عاشوراء‏:‏ ‏(‏فليصم بقية يومه‏)‏ فإذا نوى صوم التطوع من النهار كان صائما بقية النهار دون أوله‏,‏ والفرض يكون واجبا في جميع النهار ولا يكون صائما بغير النية والثاني أن التطوع سومح في نيته من الليل تكثيرا له‏,‏ فإنه قد يبدو له الصوم في النهار فاشتراط النية في الليل يمنع ذلك فسامح الشرع فيها‏,‏ كمسامحته في ترك القيام في صلاة التطوع وترك الاستقبال فيه في السفر تكثيرا له بخلاف الفرض إذا ثبت هذا ففي أي جزء من الليل نوى أجزأه‏,‏ وسواء فعل بعد النية ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع أم لم يفعل واشترط بعض أصحاب الشافعي أن لا يأتي بعد النية بمناف للصوم واشترط بعضهم وجود النية في النصف الأخير من الليل كما اختص أذان الصبح والدفع من مزدلفة به ولنا مفهوم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل‏)‏ من غير تفصيل‏,‏ ولأنه نوى من الليل فصح صومه كما لو نوى في النصف الأخير ولم يفعل ما ينافي الصوم‏,‏ ولأن تخصيص النية بالنصف الأخير يفضي إلى تفويت الصوم لأنه وقت النوم وكثير من الناس لا ينتبه فيه ولا يذكر الصوم‏,‏ والشارع إنما رخص في تقديم النية على ابتدائه لحرج اعتبارها عنده فلا يخصها بمحل لا تندفع المشقة بتخصيصها به‏,‏ ولأن تخصيصها بالنصف الأخير تحكم من غير دليل ولا يصح اعتبار الصوم بالأذان والدفع من مزدلفة لأنهما يجوزان بعد الفجر فلا يفضي منعهما في النصف الأول إلى فواتهما‏,‏ بخلاف نية الصوم ولأن اختصاصهما بالنصف الأخير بمعنى تجويزهما فيه واشتراط النية بمعنى الإيجاب والتحتم‏,‏ وفوات الصوم بفواتها فيه وهذا فيه مشقة ومضرة بخلاف التجويز‏,‏ ولأن منعهما في النصف الأول لا يفضي إلى اختصاصهما بالنصف الأخير لجوازهما بعد الفجر والنية بخلافه‏,‏ فأما إن فسخ النية مثل إن نوى الفطر بعد نية الصيام لم تجزئه تلك النية المفسوخة‏,‏ لأنها زالت حكما وحقيقة‏.‏

فصل‏:‏

وإن نوى من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا أن يستصحبها إلى جزء من الليل وقد روى ابن منصور‏,‏ عن أحمد من نوى الصوم عن قضاء رمضان بالنهار ولم ينو من الليل‏,‏ فلا بأس إلا أن يكون فسخ النية بعد ذلك فظاهر هذا حصول الإجزاء بنيته من النهار إلا أن القاضي قال‏:‏ هذا محمول على أنه استصحب النية إلى جزء من الليل وهذا صحيح لظاهر قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل‏)‏ ولأنه لم ينو عند ابتداء العبادة‏,‏ ولا قريبا منها فلم يصح كما لو نوى من الليل صوم بعد غد‏.‏

فصل‏:‏

وتعتبر النية لكل يوم وبهذا قال أبو حنيفة‏,‏ والشافعي وابن المنذر وعن أحمد أنه تجزئه نية واحدة لجميع الشهر إذا نوى صوم جميعه وهذا مذهب مالك‏,‏ وإسحاق لأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم فجاز كما لو نوى كل يوم في ليلته ولنا أنه صوم واجب‏,‏ فوجب أن ينوي كل يوم من ليلته كالقضاء ولأن هذه الأيام عبادات لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها‏,‏ فأشبهت القضاء وبهذا فارقت اليوم الأول وعلى قياس رمضان إذا نذر صوم شهر بعينه فيخرج فيه مثل ما ذكرناه في رمضان ‏.‏

فصل‏:‏

ومعنى النية القصد‏,‏ وهو اعتقاد القلب فعل شيء وعزمه عليه من غير تردد‏,‏ فمتى خطر بقلبه في الليل أن غدا من رمضان وأنه صائم فيه فقد نوى وإن شك في أنه من رمضان ولم يكن له أصل يبني عليه‏,‏ مثل أن يكون ليلة الثلاثين من شعبان ولم يحل دون مطلع الهلال غيم ولا قتر فعزم أن يصوم غدا من رمضان‏,‏ لم تصح النية ولا يجزئه صيام ذلك اليوم لأن النية قصد تتبع العلم‏,‏ وما لا يعلمه ولا دليل على وجوده ولا هو على ثقة من اعتقاده لا يصح قصده وبهذا قال حماد وربيعة ومالك‏,‏ وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وابن المنذر وقال الثوري‏,‏ والأوزاعي‏:‏ يصح إذا نواه من الليل لأنه نوى الصيام من الليل فصح كاليوم الثاني وعن الشافعي كالمذهبين ولنا أنه لم يجزم النية بصومه من رمضان‏,‏ فلم يصح كما لو لم يعلم إلا بعد خروجه وكذلك لو بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب‏,‏ لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه‏,‏ ولا العمل به فكان وجوده كعدمه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏صوموا لرؤيته‏,‏ وأفطروا لرؤيته‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه‏)‏ فأما ليلة الثلاثين من رمضان فتصح نيته‏,‏ وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصومه بقوله‏:‏ ‏(‏ولا تفطروا حتى تروه‏)‏ لكن إن قال‏:‏ إن كان غدا من رمضان فأنا صائم‏,‏ وإن كان من شوال فأنا مفطر فقال ابن عقيل لا يصح صومه‏:‏ لأنه لم يجزم بنية الصيام والنية اعتقاد جازم ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان ‏.‏

فصل‏:‏

ويجب تعيين النية في كل صوم واجب‏,‏ وهو أن يعتقد أنه يصوم غدا من رمضان أو من قضائه أو من كفارته‏,‏ أو نذره نص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال‏:‏ قلت لأبي عبد الله‏:‏ أسير صام في أرض الروم شهر رمضان‏,‏ ولا يعلم أنه رمضان ينوي التطوع‏؟‏ قال‏:‏ لا يجزئه إلا بعزيمة أنه من رمضان ولا يجزئه في يوم الشك إذا أصبح صائما وإن كان من رمضان إلا بعزيمة من الليل أنه من رمضان وبهذا قال مالك‏,‏ والشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يجب تعيين النية لرمضان فإن المروذي روى عن أحمد‏,‏ أنه قال‏:‏ يكون يوم الشك يوم غيم إذا أجمعنا على أننا نصبح صياما يجزئنا من رمضان وإن لم نعتقد أنه من رمضان‏؟‏ قال‏:‏ نعم قلت فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ أليس يريد أن ينوي أنه من رمضان‏؟‏ قال‏:‏ لا إذا نوى من الليل أنه صائم أجزأه وحكى أبو حفص العكبري‏,‏ عن بعض أصحابنا أنه قال‏:‏ ولو نوى نفلا وقع عنه رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة وقال بعض أصحابنا‏:‏ ولو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه قال القاضي‏:‏ وجدت هذا الكلام اختيارا لأبي القاسم‏,‏ ذكره في ‏"‏شرحه‏"‏ وقال أبو حفص‏:‏ لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك ولا تلوم فعلى القول الثاني‏:‏ لو نوى في رمضان الصوم مطلقا أو نوى نفلا‏,‏ وقع عن رمضان وصح صومه وهذا قول أبي حنيفة إذا كان مقميا لأنه فرض مستحق في زمن بعينه فلا يجب تعيين النية له‏,‏ كطواف الزيارة ولنا أنه صوم واجب فوجب تعيين النية له كالقضاء وطواف الزيارة‏,‏ كمسألتنا في افتقاره إلى التعيين فلو طاف ينوي به الوداع أو طاف بنية الطواف مطلقا‏,‏ لم يجزئه عن طواف الزيارة ثم الحج مخالف للصوم ولهذا ينعقد مطلقا وينصرف إلى الفرض ولو حج عن غيره‏,‏ ولم يكن حج عن نفسه وقع عن نفسه ولو نوى الإحرام بمثل ما أحرم به فلان صح‏,‏ وينعقد فاسدا بخلاف الصوم‏.‏

فصل‏:‏

ولو نوى ليلة الشك إن كان غدا من رمضان فأنا صائم‏,‏ فرضا وإلا فهو نفل لم يجزئه على الرواية الأولى لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزما‏,‏ ويجزئه على الأخرى لأنه قد نوى الصوم ولو كان عليه صوم من سنة خمس فنوى أنه يصوم عن سنة ست أو نوى الصوم عن يوم الأحد‏,‏ وكان الاثنين أو ظن أن غدا الأحد فنواه‏,‏ وكان الاثنين صح صومه لأن نية الصوم لم تختل وإنما أخطأ في الوقت‏.‏

فصل‏:‏

وإذا عين النية عن صوم رمضان‏,‏ أو قضائه أو كفارة أو نذر لم يحتج أن ينوي كونه فرضا وقال ابن حامد‏:‏ يجب ذلك وقد مر بيان ذلك في الصلاة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن نوى صيام التطوع من النهار‏,‏ ولم يكن طعم أجزأه ‏]‏ وجملة ذلك أن صوم التطوع يجوز بنية من النهار عند إمامنا‏,‏ وأبي حنيفة والشافعي وروي ذلك عن أبي الدرداء وأبي طلحة وابن مسعود‏,‏ وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير‏,‏ والنخعي وأصحاب الرأي وقال مالك وداود‏:‏ لا يجوز إلا بنية من الليل لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل‏)‏ ولأن الصلاة يتفق وقت النية لفرضها ونفلها‏,‏ فكذلك الصوم ولنا ما روت عائشة رضي الله عنها ‏(‏قالت‏:‏ دخل عليَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقال‏:‏ هل عندكم من شيء‏؟‏ قلنا‏:‏ لا قال‏:‏ فإني إذا صائم‏)‏ أخرجه مسلم‏,‏ وأبو داود والنسائي ويدل عليه أيضا حديث عاشوراء ولأن الصلاة يخفف نفلها عن فرضها بدليل أنه لا يشترط القيام لنفلها‏,‏ ويجوز في السفر على الراحلة إلى غير القبلة فكذا الصيام وحديثهم نخصه بحديثنا على أن حديثنا أصح من حديثهم‏,‏ فإنه من رواية ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قال الميموني‏:‏ سألت أحمد عنه‏,‏ فقال‏:‏ أخبرك ما له عندي ذلك الإسناد إلا أنه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان والصلاة يتفق وقت النية لنفلها وفرضها لأن اشتراط النية في أول الصلاة لا يفضي إلى تقليلها‏,‏ بخلاف الصوم فإنه يعين له الصوم من النهار فعفي عنه كما لو جوزنا التنفل قاعدا وعلى الراحلة‏,‏ لهذه العلة‏.‏

فصل‏:‏

وأي وقت من النهار نوى أجزأه سواء في ذلك ما قبل الزوال وبعده هذا ظاهر كلام أحمد والخرقي وهو ظاهر قول ابن مسعود فإنه قال‏:‏ أحدكم بأخير النظرين ما لم يأكل أو يشرب وقال رجل لسعيد بن المسيب‏:‏ إني لم آكل إلى الظهر‏,‏ أو إلى العصر أفأصوم بقية يومي‏؟‏ قال‏:‏ نعم واختار القاضي في ‏"‏المحرر‏"‏ أنه لا تجزئه النية بعد الزوال وهذا مذهب أبي حنيفة‏,‏ والمشهور من قولي الشافعي لأن معظم النهار مضى من غير نية بخلاف الناوي قبل الزوال فإنه قد أدرك معظم العبادة‏,‏ ولهذا تأثير في الأصول بدليل أن من أدرك الإمام قبل الرفع من الركوع أدرك الركعة لإدراكه معظمها ولو أدركه بعد الرفع‏,‏ لم يكن مدركا لها ولو أدرك مع الإمام من الجمعة ركعة كان مدركا لها لأنها تزيد بالتشهد‏,‏ ولو أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركا لها ولنا أنه نوى في جزء من النهار فأشبه ما لو نوى في أوله‏,‏ ولأن جميع الليل وقت لنية الفرض فكذا جميع النهار وقت لنية النفل إذا ثبت هذا فإنه يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في المنصوص عن أحمد‏,‏ فإنه قال‏:‏ من نوى في التطوع من النهار كتب له بقية يومه وإذا أجمع من الليل كان له يومه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب‏,‏ في ‏"‏الهداية‏"‏‏:‏ يحكم له بذلك من أول النهار وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن الصوم لا يتبعض في اليوم بدليل ما لو أكل في بعضه لم يجز له صيام باقيه‏,‏ فإذا وجد في بعض اليوم دل على أنه صائم من أوله ولا يمتنع الحكم بالصوم من غير نية حقيقة كما لو نسي الصوم بعد نيته‏,‏ أو غفل عنه ولأنه لو أدرك بعض الركعة أو بعض الجماعة كان مدركا لجميعها ولنا أن ما قبل النية لم ينو صيامه فلا يكون صائما فيه لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏,‏ وإنما لكل امرئ ما نوى‏)‏ ولأن الصوم عبادة محضة فلا توجد بغير نية كسائر العبادات المحضة ودعوى أن الصوم لا يتبعض‏,‏ دعوى محل النزاع وإنما يشترط لصوم البعض أن لا توجد المفطرات في شيء من اليوم ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث عاشوراء ‏(‏فليصم بقية يومه‏)‏ وأما إذا نسي النية بعد وجودها‏,‏ فإنه يكون مستصحبا لحكمها بخلاف ما قبلها فإنها لم توجد حكما‏,‏ ولا حقيقة ولهذا لو نوى الفرض من الليل ونسيه في النهار صح صومه‏,‏ ولو لم ينو من الليل لم يصح صومه وأما إدراك الركعة والجماعة فإنما معناه أنه لا يحتاج إلى قضاء ركعة‏,‏ وينوي أنه مأموم وليس هذا مستحيلا أما أن يكون ما صلى الإمام قبله من الركعات محسوبا له‏,‏ بحيث يجزئه عن فعله فكلا ولأن مدرك الركوع مدرك لجميع أركان الركعة لأن القيام وجد حين كبر وفعل سائر الأركان مع الإمام وأما الصوم فإن النية شرط أو ركن فيه‏,‏ فلا يتصور وجوده بدون شرطه وركنه إذا ثبت هذا فإن من شرطه أن لا يكون طعم قبل النية ولا فعل ما يفطره فإن فعل شيئا من ذلك‏,‏ لم يجزئه الصيام بغير خلاف نعلمه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن نوى من الليل فأغمي عليه قبل طلوع الفجر‏,‏ فلم يفق حتى غربت الشمس لم يجزه صيام ذلك اليوم ‏]‏ وجملة ذلك أنه متى أغمي عليه جميع النهار فلم يفق في شيء منه‏,‏ لم يصح صومه في قول إمامنا والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يصح لأن النية قد صحت وزوال الاستشعار بعد ذلك لا يمنع صحة الصوم‏,‏ كالنوم ولنا أن الصوم هو الإمساك مع النية قال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به‏,‏ يدع طعامه وشرابه من أجلي‏)‏ متفق عليه فأضاف ترك الطعام والشراب إليه وإذا كان مغمى عليه فلا يضاف الإمساك إليه‏,‏ فلم يجزئه ولأن النية أحد ركني الصوم فلا تجزئ وحدها كالإمساك وحده‏,‏ أما النوم فإنه عادة ولا يزيل الإحساس بالكلية ومتى نبه انتبه‏,‏ والإغماء عارض يزيل العقل فأشبه الجنون إذا ثبت هذا فزوال العقل يحصل بثلاثة أشياء أحدها‏,‏ الإغماء وقد ذكرناه ومتى فسد الصوم به فعلى المغمى عليه القضاء بغير خلاف علمناه لأن مدته لا تتطاول غالبا‏,‏ ولا تثبت الولاية على صاحبه فلم يزل به التكليف وقضاء العبادات كالنوم‏,‏ ومتى أفاق المغمى عليه في جزء من النهار صح صومه سواء كان في أوله أو آخره وقال الشافعي‏,‏ في أحد قوليه‏:‏ تعتبر الإفاقة في أول النهار ليحصل حكم النية في أوله ولنا أن الإفاقة حصلت في جزء من النهار فأجزأ‏,‏ كما لو وجدت في أوله وما ذكروه لا يصح فإن النية قد حصلت من الليل فيستغني عن ذكرها في النهار‏,‏ كما لو نام أو غفل عن الصوم ولو كانت النية إنما تحصل بالإفاقة في النهار لما صح منه صوم الفرض بالإفاقة‏,‏ لأنه لا يجزئ بنية من النهار الثاني النوم فلا يؤثر في الصوم‏,‏ سواء وجد في جميع النهار أو بعضه الثالث الجنون فحكمه حكم الإغماء‏,‏ إلا أنه إذا وجد في جميع النهار لم يجب قضاؤه وقال أبو حنيفة‏:‏ متى أفاق المجنون في جزء من رمضان لزمه قضاء ما مضى منه لأنه أدرك جزءا من رمضان وهو عاقل‏,‏ فلزمه صيامه كما لو أفاق في جزء من اليوم وقال الشافعي‏:‏ إذا وجد الجنون في جزء من النهار أفسد الصوم لأنه معنى يمنع وجوب الصوم فأفسده وجوده في بعضه‏,‏ كالحيض ولنا أنه معنى يمنع الوجوب إذا وجد في جميع الشهر فمنعه إذا وجد في جميع النهار كالصبا والكفر‏,‏ وأما إن أفاق في بعض اليوم فلنا منع في وجوبه وإن سلمناه فإنه قد أدرك بعض وقت العبادة فلزمه‏,‏ كالصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم في بعض النهار وكما لو أدرك بعض وقت الصلاة ولنا على الشافعي أنه زوال عقل في بعض النهار‏,‏ فلم يمنع صحة الصوم كالإغماء والنوم ويفارق الحيض فإن الحيض لا يمنع الوجوب‏,‏ وإنما يجوز تأخير الصوم ويحرم فعله ويوجب الغسل‏,‏ ويحرم الصلاة والقراءة واللبث في المسجد والوطء فلا يصح قياس الجنون عليه‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإذا سافر ما يقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره ‏]‏ وجملته أن للمسافر أن يفطر في رمضان وغيره‏,‏ بدلالة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ وأما السنة فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إن الله وضع عن المسافر الصوم‏)‏ رواه النسائي والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن في أخبار كثيرة سواه وأجمع المسلمون على إباحة الفطر للمسافر في الجملة‏,‏ وإنما يباح الفطر في السفر الطويل الذي يبيح القصر وقد ذكرنا قدره في الصلاة ثم لا يخلو المسافر من ثلاثة أحوال‏:‏ أحدها‏,‏ أن يدخل عليه شهر رمضان في السفر فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة الفطر له الثاني أن يسافر في أثناء الشهر ليلا‏,‏ فله الفطر في صبيحة الليلة التي يخرج فيها وما بعدها في قول عامة أهل العلم وقال عبيدة السلماني‏,‏ وأبو مجلز وسويد بن غفلة‏:‏ لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وهذا قد شهده ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ وروى ابن عباس قال‏:‏ ‏(‏خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الفتح في شهر رمضان‏,‏ فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس‏)‏ متفق عليه ولأنه مسافر فأبيح له الفطر كما لو سافر قبل الشهر‏,‏ والآية تناولت الأمر بالصوم لمن شهد الشهر كله وهذا لم يشهده كله الثالث أن يسافر في أثناء يوم من رمضان‏,‏ فحكمه في اليوم الثاني كمن سافر ليلا وفي إباحة فطر اليوم الذي سافر فيه عن أحمد روايتان إحداهما‏,‏ له أن يفطر وهو قول عمرو بن شرحبيل والشعبي وإسحاق‏,‏ وداود وابن المنذر لما روى عبيد بن جبير قال‏:‏ ركبت مع أبي بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان‏,‏ فدفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة‏,‏ ثم قال‏:‏ اقترب قلت‏:‏ ألست ترى البيوت‏؟‏ قال أبو بصرة ‏(‏أترغب عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏؟‏ فأكل‏)‏ رواه أبو داود ولأن السفر معنى لو وجد ليلا واستمر في النهار لأباح الفطر فإذا وجد في أثنائه أباحه كالمرض‏,‏ ولأنه أحد الأمرين المنصوص عليهما في إباحة الفطر بهما فأباحه في أثناء النهار كالآخر والرواية الثانية لا يباح له الفطر ذلك اليوم‏,‏ وهو قول مكحول والزهري ويحيى الأنصاري‏,‏ ومالك والأوزاعي والشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة‏,‏ والأول أصح للخبر ولأن الصوم يفارق الصلاة فإن الصلاة يلزم إتمامها بنيته بخلاف الصوم إذا ثبت هذا فإنه لا يباح له الفطر حتى يخلف البيوت وراء ظهره‏,‏ يعني أنه يجاوزها ويخرج من بين بنيانها وقال الحسن‏:‏ يفطر في بيته إن شاء يوم يريد أن يخرج وروي نحوه عن عطاء قال ابن عبد البر‏:‏ قول الحسن قول شاذ‏,‏ وليس الفطر لأحد في الحضر في نظر ولا أثر وقد روي عن الحسن خلافه وقد روى محمد بن كعب قال‏:‏ ‏(‏أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر‏,‏ وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل‏,‏ فقلت له‏:‏ سنة‏؟‏ فقال‏:‏ سنة ثم ركب‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وهذا شاهد ولا يوصف بكونه مسافرا حتى يخرج من البلد ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين‏,‏ ولذلك لا يقصر الصلاة فأما أنس فيحتمل أنه قد كان برز من البلد خارجا منه فأتاه محمد بن كعب في منزله ذلك‏.‏

فصل‏:‏

وإن نوى المسافر الصوم في سفره ثم بدا له أن يفطر‏,‏ فله ذلك واختلف قول الشافعي فيه فقال مرة‏:‏ لا يجوز له الفطر وقال مرة أخرى‏:‏ إن صح حديث الكديد لم أر به بأسا أن يفطر وقال مالك‏:‏ إن أفطر فعليه القضاء والكفارة لأنه أفطر في صوم رمضان‏,‏ فلزمه ذلك كما لو كان حاضرا ولنا حديث ابن عباس‏,‏ وهو حديث صحيح متفق عليه وروى جابر ‏(‏أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه‏,‏ فقيل له‏:‏ إن الناس قد شق عليهم الصيام وإن الناس ينظرون ما فعلت فدعا بقدح من ماء بعد العصر‏,‏ فشرب والناس ينظرون فأفطر بعضهم وصام بعضهم‏,‏ فبلغه أن ناسا صاموا فقال‏:‏ أولئك العصاة‏)‏ رواه مسلم وهذا نص صريح لا يعرج على من خالفه إذا ثبت هذا فإن له أن يفطر بما شاء من أكل وشرب وغيرهما إلا الجماع‏,‏ هل له أن يفطر به أم لا‏؟‏ فإن أفطر بالجماع ففي الكفارة روايتان الصحيح منهما أنه لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي والثانية يلزمه كفارة لأنه أفطر بجماع فلزمته كفارة كالحاضر ولنا أنه صوم لا يجب المضي فيه فلم تجب الكفارة بالجماع فيه‏,‏ كالتطوع وفارق الحاضر الصحيح فإنه يجب عليه المضي في الصوم‏,‏ وإن كان مريضا يباح له الفطر فهو كالمسافر ولأنه يفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعد حصول الفطر‏,‏ فأشبه ما لو أكل ثم جامع ومتى أفطر المسافر فله فعل جميع ما ينافي الصوم من الأكل والشرب والجماع وغيره لأن حرمتها بالصوم فتزول بزواله‏,‏ كما لو زال بمجيء الليل‏.‏

فصل‏:

وليس للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره ، كالنذر والقضاء ؛ لأن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا عنه ، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه ، لزمه أن يأتي بالأصل ‏.‏ فإن نوى صوما غير رمضان ، لم يصح صومه ، لا عن رمضان ، ولا عن ما نواه ‏.‏ هذا الصحيح في المذهب ، وهو قول أكثر العلماء ‏.‏ وقال أبو حنيفة ‏:‏ يقع ما نواه إذا كان واجبا ؛ لأنه زمن أبيح له فطره ، فكان له صومه عن واجب عليه ، كغير شهر رمضان ‏.‏ ولنا أنه أبيح له الفطر للعذر ، فلم يجز له أن يصومه عن غير رمضان ، كالمريض ، وبهذا ينتقض ما ذكروه ، وينقض أيضا بصوم التطوع ، فإنهم سلموه ‏.‏ قال صالح ‏:‏ قيل لأبي ‏:‏ من صام شهر رمضان ، وهو ينوي به تطوعا ، يجزئه ‏؟‏ قال ‏:‏ أو يفعل هذا مسلم‏؟‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن أكل أو شرب أو احتجم أو استعط‏,‏ أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو قبل فأمنى أو أمذى‏,‏ أو كرر النظر فأنزل أي ذلك فعل عامدا وهو ذاكر لصومه‏,‏ فعليه القضاء بلا كفارة إذا كان صوما واجبا ‏]‏ في هذه المسألة فصول‏:‏ أحدها أنه يفطر بالأكل والشرب بالإجماع‏,‏ وبدلالة الكتاب والسنة أما الكتاب‏:‏ فقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ مد الأكل والشرب إلى تبين الفجر ثم أمر بالصيام عنهما وأما السنة‏,‏ فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي‏)‏ وأجمع العلماء على الفطر بالأكل والشرب بما يتغذى به فأما ما لا يتغذى به‏,‏ فعامة أهل العلم على أن الفطر يحصل به وقال الحسن بن صالح‏:‏ لا يفطر بما ليس بطعام ولا شراب وحكي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يأكل البرد في الصوم‏,‏ ويقول‏:‏ ليس بطعام ولا شراب ولعل من يذهب إلى ذلك يحتج بأن الكتاب والسنة إنما حرما الأكل والشرب فما عداهما يبقى على أصل الإباحة ولنا دلالة الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على العموم فيدخل فيه محل النزاع‏,‏ ولم يثبت عندنا ما نقل عن أبي طلحة فلا يعد خلافا‏.‏

الفصل الثاني‏:‏

أن الحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم وبه قال إسحاق وابن المنذر‏,‏ ومحمد بن إسحاق بن خزيمة وهو قول عطاء وعبد الرحمن بن مهدي وكان الحسن ومسروق‏,‏ وابن سيرين لا يرون للصائم أن يحتجم وكان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا في الصوم منهم ابن عمر‏,‏ وابن عباس وأبو موسى وأنس بن مالك‏,‏ ورخص فيها أبو سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة‏,‏ وحسين بن علي وعروة وسعيد بن جبير وقال مالك‏,‏ والثوري وأبو حنيفة والشافعي‏:‏ يجوز للصائم أن يحتجم‏,‏ ولا يفطر لما روى البخاري عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏احتجم وهو صائم‏)‏ ولأنه دم خارج من البدن‏,‏ أشبه الفصد ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏ رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد عشر نفسا قال أحمد‏:‏ حديث شداد بن أوس من أصح حديث يروى في هذا الباب‏,‏ وإسناد حديث رافع إسناد جيد وقال‏:‏ حديث شداد وثوبان صحيحان وعن علي بن المديني أنه قال‏:‏ أصح شيء في هذا الباب حديث شداد وثوبان وحديثهم منسوخ بحديثنا‏,‏ بدليل ما روى ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏(‏احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقاحة بقرن وناب وهو محرم صائم‏,‏ فوجد لذلك ضعفا شديدا فنهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحتجم الصائم‏)‏ رواه أبو إسحاق الجوزجاني في المترجم وعن الحكم‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏احتجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم‏)‏ فضعف ثم كرهت الحجامة للصائم وكان ابن عباس وهو راوي حديثهم يعد الحجام والمحاجم‏,‏ فإذا غابت الشمس احتجم بالليل كذلك رواه الجوزجاني وهذا يدل على أنه علم نسخ الحديث الذي رواه ويحتمل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم فأفطر كما روي عنه عليه السلام أنه ‏(‏قاء فأفطر‏)‏ فإن قيل‏:‏ فقد روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏رأى الحاجم والمحتجم يغتابان‏)‏ فقال ذلك‏,‏ قلنا‏:‏ لم تثبت صحة هذه الرواية مع أن اللفظ أعم من السبب فيجب العمل بعموم اللفظ لا بخصوص السبب‏,‏ على أننا قد ذكرنا الحديث الذي فيه بيان علة النهي عن الحجامة وهي الخوف من الضعف فيبطل التعليل بما سواه‏,‏ أو يكون كل واحد منهما علة مستقلة على أن الغيبة لا تفطر الصائم إجماعا فلا يصح حمل الحديث على ما يخالف الإجماع قال أحمد‏:‏ لأن يكون الحديث كما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏ أحب إلينا من أن يكون من الغيبة لأن من أراد أن يمتنع من الحجامة امتنع وهذا أشد على الناس‏,‏ من يسلم من الغيبة فإن قيل‏:‏ فإذا كانت علة النهي ضعف الصائم بها فلا يقتضي ذلك الفطر وإنما يقتضي الكراهة‏,‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏ أي قربا من الفطر قلنا‏:‏ هذا تأويل يحتاج إلى دليل على أنه لا يصح ذلك في حق الحاجم فإنه لا ضعف فيه‏.‏

الفصل الثالث‏:

أنه يفطر بكل ما أدخله إلى جوفه‏,‏ أو مجوف في جسده كدماغه وحلقه ونحو ذلك مما ينفذ إلى معدته إذا وصل باختياره‏,‏ وكان مما يمكن التحرز منه سواء وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود‏,‏ أو من الأنف كالسعوط أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل‏,‏ أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه أو من دواء المأمومة إلى دماغه‏,‏ فهذا كله يفطره لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل وكذلك لو جرح نفسه‏,‏ أو جرحه غيره باختياره فوصل إلى جوفه سواء استقر في جوفه‏,‏ أو عاد فخرج منه وبهذا كله قال الشافعي وقال مالك‏:‏ لا يفطر بالسعوط إلا أن ينزل إلى حلقه‏,‏ ولا يفطر إذا داوى المأمومة والجائفة واختلف عنه في الحقنة واحتج له بأنه لم يصل إلى الحلق منه شيء أشبه ما لم يصل إلى الدماغ ولا الجوف ولنا أنه واصل إلى جوف الصائم باختياره‏,‏ فيفطره كالواصل إلى الحلق والدماغ جوف‏,‏ والواصل إليه يغذيه فيفطره كجوف البدن‏.‏

فصل‏:

فأما الكحل‏,‏ فما وجد طعمه في حلقه أو علم وصوله إليه فطره‏,‏ وإلا لم يفطره نص عليه أحمد وقال ابن أبي موسى‏:‏ ما يجد طعمه كالزرور والصبر والقطور أفطر وإن اكتحل باليسير من الإثمد غير المطيب كالميل ونحوه‏,‏ لم يفطر نص عليه أحمد وقال ابن عقيل‏:‏ إن كان الكحل حادا فطره وإلا فلا ونحو ما ذكرناه قال أصحاب مالك وعن ابن أبي ليلى‏,‏ وابن شبرمة أن الكحل يفطر الصائم وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ لا يفطره لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏أنه اكتحل في رمضان وهو صائم‏)‏ ولأن العين ليست منفذا فلم يفطر بالداخل منها‏,‏ كما لو دهن رأسه ولنا أنه أوصل إلى حلقه ما هو ممنوع من تناوله بفيه فأفطر به كما لو أوصله من أنفه وما رووه لم يصح‏,‏ قال الترمذي‏:‏ لم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في باب الكحل للصائم شيء ثم يحمله على أنه اكتحل بما لا يصل وقولهم‏:‏ ليست العين منفذا لا يصح فإنه يوجد طعمه في الحلق ويكتحل بالإثمد فيتنخعه قال أحمد‏:‏ حدثني إنسان أنه اكتحل بالليل فتنخعه بالنهار ثم لا يعتبر في الواصل أن يكون من منفذ بدليل ما لو جرح نفسه جائفة‏,‏ فإنه يفطر‏.‏

فصل‏:‏

وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع الريق لا يفطره لأن اتقاء ذلك يشق‏,‏ فأشبه غبار الطريق وغربلة الدقيق فإن جمعه ثم ابتلعه قصدا لم يفطره لأنه يصل إلى جوفه من معدته أشبه ما إذا لم يجمعه وفيه وجه آخر‏,‏ أنه يفطره لأنه أمكنه التحرز منه أشبه ما لو قصد ابتلاع غبار الطريق والأول أصح فإن الريق لا يفطر إذا لم يجمعه وإن قصد ابتلاعه‏,‏ فكذلك إذا جمعه بخلاف غبار الطريق فإن خرج ريقه إلى ثوبه‏,‏ أو بين أصابعه أو بين شفتيه ثم عاد فابتلعه‏,‏ أو بلع ريق غيره أفطر لأنه ابتلعه من غير فمه فأشبه ما لو بلع غيره فإن قيل‏:‏ فقد روت عائشة‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها‏)‏ رواه أبو داود قلنا‏:‏ قد روي عن أبي داود أنه قال‏:‏ هذا إسناد ليس بصحيح ويجوز أن يكون يقبل في الصوم ويمص لسانها في غيره ويجوز أن يمصه‏,‏ ثم لا يبتلعه ولأنه لم يتحقق انفصال ما على لسانها من البلل إلى فمه فأشبه ما لو ترك حصاة مبلولة في فيه‏,‏ أو لو تمضمض بماء ثم مجه ولو ترك في فمه حصاة أو درهما فأخرجه وعليه بلة من الريق ثم أعاده في فيه‏,‏ نظرت فإن كان ما عليه من الريق كثيرا فابتلعه أفطر وإن كان يسيرا لم يفطر بابتلاع ريقه وقال بعض أصحابنا‏:‏ يفطر لابتلاعه ذلك البلل الذي كان على الجسم ولنا أنه لا يتحقق انفصال ذلك البلل ودخوله إلى حلقه‏,‏ فلا يفطره كالمضمضة والتسوك بالسواك الرطب والمبلول ويقوي ذلك حديث عائشة في مص لسانها ولو أخرج لسانه وعليه بلة ثم عاد فأدخله وابتلع ريقه‏,‏ لم يفطر‏.‏

فصل‏:‏

وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان إحداهما يفطر قال حنبل‏:‏ سمعت أبا عبد الله يقول‏:‏ إذا تنخم‏,‏ ثم ازدرده فقد أفطر لأن النخامة من الرأس تنزل والريق من الفم ولو تنخع من جوفه‏,‏ ثم ازدرده أفطر وهذا مذهب الشافعي لأنه أمكن التحرز منها أشبه الدم‏,‏ ولأنها من غير الفم أشبه القيء والرواية الثانية لا يفطر قال‏,‏ في رواية المروذي‏:‏ ليس عليك قضاء إذا ابتلعت النخامة وأنت صائم لأنه معتاد في الفم غير واصل من خارج أشبه الريق‏.‏

فصل‏:‏

فإن سال فمه دما‏,‏ أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر وإن كان يسيرا لأن الفم في حكم الظاهر‏,‏ والأصل حصول الفطر بكل واصل منه لكن عفي عن الريق لعدم إمكان التحرز منه فما عداه يبقى على الأصل‏,‏ وإن ألقاه من فيه وبقي فمه نجسا أو تنجس فمه بشيء من خارج‏,‏ فابتلع ريقه فإن كان معه جزء من المنجس أفطر بذلك الجزء وإلا فلا‏.‏

فصل‏:‏

ولا يفطر بالمضمضة بغير خلاف‏,‏ سواء كان في الطهارة أو غيرها وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عمر سأله عن القبلة للصائم‏؟‏ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم‏؟‏ قلت‏:‏ لا بأس قال‏:‏ فمه‏)‏‏؟‏ ولأن الفم في حكم الظاهر فلا يبطل الصوم بالواصل إليه‏,‏ كالأنف والعين وإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف‏,‏ فلا شيء عليه وبه قال الأوزاعي وإسحاق والشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن ابن عباس وقال مالك‏,‏ وأبو حنيفة‏:‏ يفطر لأنه أوصل الماء إلى جوفه ذاكرا لصومه فأفطر كما لو تعمد شربه ولنا أنه وصل إلى حلقه من غير إسراف ولا قصد‏,‏ فأشبه ما لو طارت ذبابة إلى حلقه وبهذا فارق المتعمد فأما إن أسرف فزاد على الثلاث أو بالغ في الاستنشاق‏,‏ فقد فعل مكروها لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للقيط بن صبرة‏:‏ ‏(‏وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما‏)‏ حديث صحيح ولأنه يتعرض بذلك لإيصال الماء إلى حلقه فإن وصل إلى حلقه فقال أحمد‏:‏ يعجبني أن يعيد الصوم وهل يفطر بذلك‏؟‏ على وجهين‏:‏ أحدهما‏,‏ يفطر لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المبالغة حفظا للصوم فدل على أنه يفطر به ولأنه وصل بفعل منهي عنه‏,‏ فأشبه التعمد والثاني لا يفطر به لأنه وصل من غير قصد فأشبه غبار الدقيق إذا نخله فأما المضمضة لغير الطهارة فإن كانت لحاجة‏,‏ كغسل فمه عند الحاجة إليه ونحوه فحكمه حكم المضمضة للطهارة وإن كان عبثا أو تمضمض من أجل العطش‏,‏ كره وسئل أحمد عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه قال‏:‏ يرش على صدره أحب إلي فإن فعل فوصل الماء إلى حلقه أو ترك الماء في فيه عابثا‏,‏ أو للتبرد فالحكم فيه كالحكم في الزائد على الثلاث لأنه مكروه ولا بأس أن يصب الماء على رأسه من الحر والعطش لما روي عن بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعرج يصب الماء على رأسه وهو صائم من العطش أو من الحر‏)‏ رواه أبو داود‏.‏

فصل‏:‏

ولا بأس أن يغتسل الصائم فإن عائشة‏,‏ وأم سلمة ‏(‏قالتا‏:‏ نشهد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن كان ليصبح جنبا من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم‏)‏ متفق عليه وروى أبو بكر‏,‏ بإسناده أن ابن عباس دخل الحمام وهو صائم هو وأصحاب له في شهر رمضان فأما الغوص في الماء‏,‏ فقال أحمد في الصائم ينغمس في الماء‏:‏ إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه وكره الحسن والشعبي أن ينغمس في الماء خوفا أن يدخل في مسامعه فإن دخل في مسامعه‏,‏ فوصل إلى دماغه من الغسل المشروع من غير إسراف ولا قصد فلا شيء عليه‏,‏ كما لو دخل إلى حلقه من المضمضة في الوضوء وإن غاص في الماء أو أسرف‏,‏ أو كان عابثا فحكمه حكم الداخل إلى الحلق من المبالغة في المضمضة والاستنشاق والزائد على الثلاث والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏

قال إسحاق بن منصور‏:‏ قلت لأحمد‏:‏ الصائم يمضغ العلك قال‏:‏ لا قال أصحابنا‏:‏ العلك ضربان أحدهما‏,‏ ما يتحلل منه أجزاء وهو الرديء الذي إذا مضغه يتحلل فلا يجوز مضغه‏,‏ إلا أن لا يبلع ريقه فإن فعل فنزل إلى حلقه منه شيء أفطر به‏,‏ كما لو تعمد أكله والثاني العلك القوي الذي كلما مضغه صلب وقوي فهذا يكره مضغه ولا يحرم وممن كرهه الشعبي‏,‏ والنخعي ومحمد بن علي وقتادة والشافعي وأصحاب الرأي وذلك لأنه يحلب الفم‏,‏ ويجمع الريق ويورث العطش ورخصت عائشة في مضغه وبه قال عطاء لأنه لا يصل إلى الجوف فهو كالحصاة يضعها في فيه‏,‏ ومتى مضغه ولم يجد طعمه في حلقه لم يفطر وإن وجد طعمه في حلقه لم يفطر وإن وجد طعمه في حلقه ففيه وجهان أحدهما‏,‏ يفطره كالكحل إذا وجد طعمه في حلقه والثاني لا يفطره لأنه لم ينزل منه شيء‏,‏ ومجرد الطعم لا يفطر بدليل أنه قد قيل‏:‏ من لطخ باطن قدمه بالحنظل وجد طعمه‏,‏ ولا يفطر بخلاف الكحل فإن أجزاءه تصل إلى الحلق‏,‏ ويشاهد إذا تنخع قال أحمد‏:‏ من وضع في فيه درهما أو دينارا وهو صائم ما لم يجد طعمه في حلقه فلا بأس به‏,‏ وما يجد طعمه فلا يعجبني وقال عبد الله‏:‏ سألت أبي عن الصائم يفتل الخيوط قال‏:‏ يعجبني أن يبزق‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد‏:‏ أحب إلي أن يجتنب ذوق الطعام فإن فعل لم يضره‏,‏ ولا بأس به قال ابن عباس‏:‏ لا بأس أن يذوق الطعام والخل والشيء يريد شراءه والحسن كان يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم ورخص فيه إبراهيم قال ابن عقيل‏:‏ يكره من غير حاجة ولا بأس به مع الحاجة فإن فعل فوجد طعمه في حلقه أفطر‏,‏ وإلا لم يفطر‏.‏

فصل‏:‏

قال أحمد‏:‏ لا بأس بالسواك للصائم قال عامر بن ربيعة‏:‏ ‏(‏رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ما لا أحصي يتسوك وهو صائم‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن وقال زياد بن حدير‏:‏ ما رأيت أحدا كان أدوم لسواك رطب وهو صائم من عمر بن الخطاب‏,‏ ولكنه يكون عودا ذاويا ولم ير أهل العلم بالسواك أول النهار بأسا إذا كان العود يابسا واستحب أحمد وإسحاق ترك السواك بالعشي قال أحمد‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك الأذفر‏)‏ لتلك الرائحة لا يعجبني للصائم أن يستاك بالعشي واختلفت الرواية عنه في التسوك بالعود الرطب فرويت عنه الكراهة وهو قول قتادة‏,‏ والشعبي والحكم وإسحاق‏,‏ ومالك في رواية لأنه مغرر بصومه لاحتمال أن يتحلل منه أجزاء إلى حلقه فيفطره وروي عنه لا يكره وبه قال الثوري‏,‏ والأوزاعي وأبو حنيفة وروي ذلك عن علي وابن عمر‏,‏ وعروة ومجاهد لما رويناه من حديث عمر وغيره من الصحابة‏.‏

فصل‏:‏

ومن أصبح بين أسنانه طعام لم يخل من حالين‏:‏ أحدهما أن يكون يسيرا لا يمكنه لفظه فازدرده‏,‏ فإنه لا يفطر به لأنه لا يمكن التحرز منه فأشبه الريق قال ابن المنذر‏:‏ أجمع على ذلك أهل العلم الثاني‏,‏ أن يكون كثيرا يمكن لفظه فإن لفظه فلا شيء عليه وإن ازدرده عامدا‏,‏ فسد صومه في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يفطر لأنه لا بد له أن يبقى بين أسنانه شيء مما يأكله فلا يمكن التحرز منه فأشبه ما يجري به الريق ولنا أنه بلع طعاما يمكنه لفظه باختياره‏,‏ ذاكرا لصومه فأفطر به كما لو ابتدأ الأكل‏,‏ ويخالف ما يجري به الريق فإنه لا يمكنه لفظه فإن قيل‏:‏ يمكنه أن يبصق قلنا‏:‏ لا يخرج جميع الريق ببصاقه وإن منع من ابتلاع ريقه كله لم يمكنه‏.‏

فصل‏:‏

فإن قطر في إحليله دهنا ، لم يفطر به ، سواء وصل إلى المثانة ، أو لم يصل ، وبه قال أبو حنيفة ‏.‏ وقال الشافعي ‏:‏ يفطر ؛ لأنه أوصل الدهن إلى جوف في جسده ، فأفطر ، كما لو نوى الجائفة ، ولأن المني يخرج من الذكر فيفطره ، وما أفطر بالخارج منه جاز أن يفطر بالداخل منه ، كالفم ‏.‏ ولنا أنه ليس بين باطن الذكر والجوف منفذ ، وإنما يخرج البول رشحا ، فالذي يتركه فيه لا يصل إلى الجوف ، فلا يفطره ، كالذي يتركه في فيه ولم يبتلعه ‏.‏

الفصل الرابع‏:‏

إذا قبل فأمنى أو أمذى‏,‏ ولا يخلو المقبل من ثلاثة أحوال أحدها أن لا ينزل فلا يفسد صومه بذلك‏,‏ لا نعلم فيه خلافا لما روت عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لإربه‏)‏ رواه البخاري‏,‏ ومسلم ويروى بتحريك الراء وسكونها قال الخطابي‏:‏ معناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها وقيل بالتسكين‏:‏ العضو وبالفتح‏:‏ الحاجة وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏هششت فقبلت وأنا صائم‏,‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله‏:‏ صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال‏:‏ أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم‏؟‏ قلت‏:‏ لا بأس به قال‏:‏ فمه‏؟‏‏)‏ رواه أبو داود شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الشهوة‏,‏ وأن المضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر وإن كان معها نزوله أفطر إلا أن أحمد ضعف هذا الحديث وقال‏:‏ هذا ريح‏,‏ ليس من هذا شيء الحال الثاني أن يمني فيفطر بغير خلاف نعلمه لما ذكرناه من إيماء الخبرين ولأنه إنزال بمباشرة‏,‏ فأشبه الإنزال بالجماع دون الفرج الحال الثالث أن يمذي فيفطر عند إمامنا ومالك وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ لا يفطر وروي ذلك عن الحسن‏,‏ والشعبي والأوزاعي لأنه خارج لا يوجب الغسل‏,‏ أشبه البول ولنا أنه خارج تخلله الشهوة خرج بالمباشرة فأفسد الصوم كالمني وفارق البول بهذا واللمس لشهوة كالقبلة في هذا إذا ثبت هذا‏,‏ فإن المقبل إذا كان ذا شهوة مفرطة بحيث يغلب على ظنه أنه إذا قبل أنزل لم تحل له القبلة لأنها مفسدة لصومه‏,‏ فحرمت كالأكل وإن كان ذا شهوة لكنه لا يغلب على ظنه ذلك‏,‏ كره له التقبيل لأنه يعرض صومه للفطر ولا يأمن عليه الفساد وقد روي عن عمر أنه قال‏:‏ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام‏,‏ فأعرض عني فقلت له‏:‏ ما لي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إنك تقبل وأنت صائم‏"‏ ولأن العبادة إذا منعت الوطء منعت القبلة كالإحرام ولا تحرم القبلة في هذه الحال لما روي ‏(‏أن رجلا قبل وهو صائم‏,‏ فأرسل امرأته فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقبل وهو صائم فقال الرجل‏:‏ إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليس مثلنا‏,‏ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال‏:‏ إني لأخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي‏)‏ رواه مسلم بمعناه ولأن إفضاءه إلى إفساد الصوم مشكوك فيه ولا يثبت التحريم بالشك‏,‏ فأما إن كان ممن لا تحرك القبلة شهوته كالشيخ الهرم ففيه روايتان إحداهما‏,‏ لا يكره له ذلك وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل وهو صائم لما كان مالكا لإربه وغير ذي الشهوة في معناه وقد روى أبو هريرة ‏(‏أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المباشرة للصائم‏,‏ فرخص له فأتاه آخر فسأله‏,‏ فنهاه فإذا الذي رخص له شيخ وإذا الذي نهاه شاب‏)‏ أخرجه أبو داود ولأنها مباشرة لغير شهوة‏,‏ فأشبهت لمس اليد لحاجة والثانية يكره لأنه لا يأمن حدوث الشهوة ولأن الصوم عبادة تمنع الوطء‏,‏ فاستوى في القبلة فيها من تحرك شهوته وغيره كالإحرام فأما اللمس لغير شهوة‏,‏ كلمس يدها ليعرف مرضها فليس بمكروه بحال لأن ذلك لا يكره في الإحرام فلا يكره في الصيام‏,‏ كلمس ثوبها‏.‏

فصل‏:‏

ولو استمنى بيده فقد فعل محرما ولا يفسد صومه به إلا أن ينزل فإن أنزل فسد صومه لأنه في معنى القبلة في إثارة الشهوة فأما إن أنزل لغير شهوة‏,‏ كالذي يخرج منه المني أو المذي لمرض فلا شيء عليه لأنه خارج لغير شهوة أشبه البول‏,‏ ولأنه يخرج من غير اختيار منه ولا تسبب إليه فأشبه الاحتلام ولو احتلم لم يفسد صومه‏,‏ لأنه عن غير اختيار منه فأشبه ما لو دخل حلقه شيء وهو نائم ولو جامع في الليل فأنزل بعد ما أصبح‏,‏ لم يفطر لأنه لم يتسبب إليه في النهار فأشبه ما لو أكل شيئا في الليل فذرعه القيء في النهار‏.‏

الفصل الخامس‏:‏

إذا كرر النظر فأنزل‏,‏ ولتكرار النظر أيضا ثلاثة أحوال أحدها أن لا يقترن به إنزال فلا يفسد الصوم بغير اختلاف الثاني‏,‏ أن يقترن به إنزال المني فيفسد الصوم في قول إمامنا وعطاء‏,‏ والحسن البصري ومالك والحسن بن صالح وقال جابر بن زيد‏,‏ والثوري وأبو حنيفة والشافعي‏,‏ وابن المنذر‏:‏ لا يفسد لأنه إنزال عن غير مباشرة أشبه الإنزال بالفكر ولنا أنه إنزال بفعل يتلذذ به ويمكن التحرز منه‏,‏ فأفسد الصوم كالإنزال باللمس والفكر لا يمكن التحرز منه‏,‏ بخلاف تكرار النظر الثالث‏:‏ مذي بتكرار النظر فظاهر كلام أحمد أنه لا يفطر به لأنه لا نص في الفطر ولا يمكن قياسه على إنزال المني‏,‏ لمخالفته إياه في الأحكام فيبقى على الأصل فأما إن نظر فصرف بصره لم يفسد صومه‏,‏ سواء أنزل أو لم ينزل وقال مالك‏:‏ إن أنزل فسد صومه لأنه أنزل بالنظر أشبه ما لو كرره ولنا أن النظرة الأولى لا يمكن التحرز منها فلا يفسد الصوم ما أفضت إليه‏,‏ كالفكرة وعليه يخرج التكرار فإذا ثبت هذا‏,‏ فإن تكرار النظر مكروه لمن يحرك شهوته غير مكروه لمن لا يحرك شهوته كالقبلة ويحتمل أن لا يكره بحال لأن إفضاءه إلى الإنزال المفطر بعيد جدا‏,‏ بخلاف القبلة فإن حصول المذي بها ليس ببعيد‏.‏

فصل‏:‏

فإن فكر فأنزل لم يفسد صومه وحكي عن أبي حفص البرمكي‏,‏ أنه يفسد واختاره ابن عقيل لأن الفكرة تستحضر فتدخل تحت الاختيار بدليل تأثيم صاحبها في مساكنتها‏,‏ في بدعة وكفر ومدح الله سبحانه الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التفكر في ذات الله وأمر بالتفكر في آلائه‏,‏ ولو كانت غير مقدور عليها لم يتعلق ذلك بها كالاحتلام فأما إن خطر بقلبه صورة الفعل فأنزل‏,‏ لم يفسد صومه لأن الخاطر لا يمكن دفعه ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم‏)‏ ولأنه لا نص في الفطر به ولا إجماع‏,‏ ولا يمكن قياسه على المباشرة ولا تكرار النظر لأنه دونهما في استدعاء الشهوة‏,‏ وإفضائه إلى الإنزال ويخالفهما في التحريم إذا تعلق ذلك بأجنبية أو الكراهة إن كان في زوجة‏,‏ فيبقى على الأصل‏.‏

الفصل السادس‏:‏

أن المفسد للصوم من هذا كله ما كان عن عمد وقصد فأما ما حصل منه عن غير قصد كالغبار الذي يدخل حلقه من الطريق‏,‏ ونخل الدقيق والذبابة التي تدخل حلقه أو يرش عليه الماء فيدخل مسامعه‏,‏ أو أنفه أو حلقه أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه أو يسبق إلى حلقه من ماء المضمضة‏,‏ أو يصب في حلقه أو أنفه شيء كرها أو تداوى مأمومته أو جائفته بغير اختياره أو يحجم كرها‏,‏ أو تقبله امرأة بغير اختياره فينزل أو ما أشبه هذا فلا يفسد صومه‏,‏ لا نعلم فيه خلافا لأنه لا فعل له فلا يفطر كالاحتلام وأما إن أكره على شيء من ذلك بالوعيد ففعله‏,‏ فقال ابن عقيل‏:‏ قال أصحابنا‏:‏ لا يفطر به أيضا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه‏)‏ قال‏:‏ ويحتمل عندي أن يفطر لأنه فعل المفطر لدفع الضرر عن نفسه فأشبه المريض يفطر لدفع المرض‏,‏ ومن يشرب لدفع العطش ويفارق الملجأ لأنه خرج بذلك عن حيز الفعل ولذلك لا يضاف إليه‏,‏ ولذلك افترقا فيما لو أكره على قتل آدمي وألقي عليه‏.‏

الفصل السابع‏:‏

أنه متى أفطر بشيء من ذلك فعليه القضاء لا نعلم في ذلك خلافا لأن الصوم كان ثابتا في الذمة‏,‏ فلا تبرأ منه إلا بأدائه ولم يؤده فبقي على ما كان عليه ولا كفارة في شيء مما ذكرناه‏,‏ في ظاهر المذهب وهو قول سعيد بن جبير والنخعي وابن سيرين‏,‏ وحماد والشافعي وعن أحمد أن الكفارة تجب على من أنزل بلمس أو قبلة أو تكرار نظر لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الإنزال بالجماع وعنه في المحتجم‏,‏ إن كان عالما بالنهي فعليه الكفارة وقال عطاء في المحتجم‏:‏ عليه الكفارة وقال مالك‏:‏ تجب الكفارة بكل ما كان هتكا للصوم إلا الردة لأنه إفطار في رمضان أشبه الجماع وحكي عن عطاء‏,‏ والحسن والزهري والثوري‏,‏ والأوزاعي وإسحاق أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع وبه قال أبو حنيفة‏,‏ إلا أنه اعتبر ما يتغذى به أو يتداوى به فلو ابتلع حصاة أو نواة أو فستقة بقشرها فلا كفارة عليه واحتجوا بأنه أفطر بأعلى ما في الباب من جنسه‏,‏ فوجبت عليه الكفارة كالمجامع ولنا أنه أفطر بغير جماع فلم توجب الكفارة كبلع الحصاة أو التراب‏,‏ أو كالردة عند مالك ولأنه لا نص في إيجاب الكفارة بهذا ولا إجماع ولا يصح قياسه على الجماع‏,‏ لأن الحاجة إلى الزجر عنه أمس والحكم في التعدي به آكد ولهذا يجب به الحد إذا كان محرما‏,‏ ويختص بإفساد الحج دون سائر محظوراته ووجوب البدنة ولأنه في الغالب يفسد صوم اثنين‏,‏ بخلاف غيره‏.‏

فصل‏:‏

والواجب في القضاء عن كل يوم يوم في قول عامة الفقهاء وقال أحمد‏:‏ قال إبراهيم ووكيع‏:‏ يصوم ثلاثة آلاف يوم وعجب أحمد من قولهما وقال سعيد بن المسيب‏:‏ من أفطر يوما متعمدا يصوم شهرا وحكي عن ربيعة أنه قال‏:‏ يجب مكان كل يوم اثنا عشر يوما لأن رمضان يجزئ عن جميع السنة‏,‏ وهي اثنا عشر شهرا ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخر‏}‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة المجامع‏:‏ ‏(‏صم يوما مكانه‏)‏ رواه أبو داود ولأن القضاء يكون على حسب الأداء بدليل سائر العبادات ولأن القضاء لا يختلف بالعذر وعدمه‏,‏ بدليل الصلاة والحج وما ذكروه تحكم لا دليل عليه والتقدير لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع‏,‏ وليس معهم واحد منهما وقول ربيعة يبطل بالمعذور وذكر لأحمد حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏من أفطر يوما من رمضان متعمدا لم يقضه ولو صام الدهر‏)‏ فقال‏:‏ ليس يصح هذا الحديث‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإن فعل ذلك ناسيا‏,‏ فهو على صومه ولا قضاء عليه ‏]‏ وجملته أن جميع ما ذكره الخرقي في هذه المسألة لا يفطر الصائم بفعله ناسيا وروي عن علي رضي الله عنه‏:‏ لا شيء على من أكل ناسيا وهو قول أبي هريرة وابن عمر وعطاء‏,‏ وطاوس وابن أبي ذئب والأوزاعي‏,‏ والثوري والشافعي وأبي حنيفة‏,‏ وإسحاق وقال ربيعة ومالك‏:‏ يفطر لأن ما لا يصح الصوم مع شيء من جنسه عمدا‏,‏ لا يجوز مع سهوه كالجماع وترك النية‏,‏ ولنا‏:‏ ما روى أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه‏)‏ متفق عليه وفي لفظ‏:‏ ‏(‏من أكل أو شرب ناسيا‏,‏ فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله‏)‏ ولأنها عبادة ذات تحليل وتحريم فكان في محظوراتها ما يختلف عمده وسهوه‏,‏ كالصلاة والحج وأما النية فليس تركها فعلا ولأنها شرط والشروط لا تسقط بالسهو‏,‏ بخلاف المبطلات والجماع حكمه أغلظ ويمكن التحرز عنه‏.‏

فصل‏:‏

وإن فعل شيئا من ذلك وهو نائم‏,‏ لم يفسد صومه لأنه لا قصد له ولا علم بالصوم فهو أعذر من الناسي وذكر أبو الخطاب أن من فعل من هذا شيئا جاهلا بتحريمه‏,‏ لم يفطر ولم أره عن غيره وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏أفطر الحاجم والمحجوم‏)‏ في حق الرجلين اللذين رآهما يحجم أحدهما صاحبه مع جهلهما بتحريمه‏,‏ يدل على أن الجهل لا يعذر به ولأنه نوع جهل فلم يمنع الفطر‏,‏ كالجهل بالوقت في حق من يأكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه ‏]‏ معنى استقاء‏:‏ تقيأ مستدعيا للقيء وذرعه‏:‏ خروج من غير اختيار منه‏,‏ فمن استقاء فعليه القضاء لأن صومه يفسد به ومن ذرعه فلا شيء عليه وهذا قول عامة أهل العلم قال الخطابي‏:‏ لا أعلم بين أهل العلم فيه اختلافا وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أن القيء لا يفطر وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ‏(‏ثلاث لا يفطرن الصائم‏:‏ الحجامة والقيء والاحتلام‏)‏ ولأن الفطر بما يدخل لا بما يخرج ولنا ما روى أبو هريرة‏,‏ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عامدا فليقض‏)‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن غريب ورواه أبو داود وحديثهم غير محفوظ يرويه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏,‏ وهو ضعيف في الحديث قاله الترمذي والمعنى الذي ذكر لهم يبطل بالحيض والمني‏.‏

فصل‏:‏

وقليل القيء وكثيره سواء في ظاهر قول الخرقي وهو إحدى الروايات عن أحمد‏,‏ والرواية الثانية لا يفطر إلا بملء الفم لأنه روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال‏:‏ ‏(‏ولكن دسعة تملأ الفم‏)‏ ولأن اليسير لا ينقض الوضوء فلا يفطر كالبلغم والثالثة نصف الفم‏,‏ لأنه ينقض الوضوء فأفطر به كالكثير والأولى أولى لظاهر الحديث الذي رويناه ولأن سائر المفطرات لا فرق بين قليلها وكثيرها وحديث الرواية الثانية لا نعرف له أصلا ولا فرق بين كون القيء طعاما‏,‏ أو مرارا أو بلغما أو دما‏,‏ أو غيره لأن الجميع داخل تحت عموم الحديث والمعنى والله تعالى أعلم بالصواب‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ ومن ارتد عن الإسلام فقد أفطر ‏]‏ لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن من ارتد عن الإسلام في أثناء الصوم‏,‏ أنه يفسد صومه وعليه قضاء ذلك اليوم إذا عاد إلى الإسلام سواء أسلم في أثناء اليوم‏,‏ أو بعد انقضائه وسواء كانت ردته باعتقاده ما يكفر به أو شكه فيما يكفر بالشك فيه‏,‏ أو بالنطق بكلمة الكفر مستهزئا أو غير مستهزئ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم‏}‏ وذلك لأن الصوم عبادة من شرطها النية‏,‏ فأبطلتها الردة كالصلاة والحج ولأنه عبادة محضة‏,‏ فنافاها الكفر كالصلاة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ ومن نوى الإفطار فقد أفطر ‏]‏ هذا الظاهر من المذهب وهو قول الشافعي وأبي ثور‏,‏ وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا‏:‏ إن عاد فنوى قبل أن ينتصف النهار أجزأه بناء على أصلهم أن الصوم يجزئ بنية من النهار وحكي عن ابن حامد أن الصوم لا يفسد بذلك لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها فلم تفسد بنية الخروج منها‏,‏ كالحج ولنا أنها عبادة من شرطها النية ففسدت بنية الخروج منها كالصلاة‏,‏ ولأن الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة ولكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بقاء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها فإذا نواه زالت حقيقة وحكما‏,‏ ففسد الصوم لزوال شرطه وما ذكره ابن حامد لا يطرد في غير رمضان ولا يصح القياس على الحج فإنه يصح بالنية المطلقة والمبهمة‏,‏ وبالنية عن غيره إذا لم يكن حج عن نفسه فافترقا‏.‏

فصل‏:

فأما صوم النافلة فإن نوى الفطر‏,‏ ثم لم ينو الصوم بعد ذلك لم يصح صومه لأن النية انقطعت ولم توجد نية غيرها فأشبه من لم ينو أصلا وإن عاد فنوى الصوم‏,‏ صح صومه كما لو أصبح غير ناو للصوم لأن نية الفطر إنما أبطلت الفرض لما فيه من قطع النية المشترطة في جميع النهار حكما وخلو بعض أجزاء النهار عنها والنفل مخالف للفرض في ذلك‏,‏ فلم تمنع صحته نية الفطر في زمن لا يشترط وجود نية الصوم فيه ولأن نية الفطر لا تزيد على عدم النية في ذلك الوقت وعدمها لا يمنع صحة الصوم إذا نوى بعد ذلك‏,‏ فكذلك إذا نوى الفطر ثم نوى الصوم بعده بخلاف الواجب‏,‏ فإنه لا يصح بنية من النهار وقد روي عن أحمد أنه قال‏:‏ إذا أصبح صائما ثم عزم على الفطر‏,‏ فلم يفطر حتى بدا له ثم قال‏:‏ لا بل أتم صومي من الواجب لم يجزئه حتى يكون عازما على الصوم يومه كله‏,‏ ولو كان تطوعا كان أسهل وظاهر هذا موافق لما ذكرناه وقد دل على صحته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏كان يسأل أهله‏:‏ هل من غداء‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ إني إذا صائم‏)‏‏.‏

مسألة‏:

قال‏:‏ ‏[‏ ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل‏,‏ أو دون الفرج فأنزل عامدا أو ساهيا فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان ‏]‏ لا نعلم بين أهل العلم خلافا‏,‏ في أن من جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو دون الفرج فأنزل أنه يفسد صومه إذا كان عامدا‏,‏ وقد دلت الأخبار الصحيحة على ذلك وهذه المسألة فيها مسائل أربع‏:‏

إحداها‏:‏

أن من أفسد صوما واجبا بجماع فعليه القضاء‏,‏ سواء كان في رمضان أو غيره وهذا قول أكثر الفقهاء وقال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ من لزمته الكفارة لا قضاء عليه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر الأعرابي بالقضاء وحكي عن الأوزاعي أنه قال‏:‏ إن كفر بالصيام فلا قضاء عليه لأنه صام شهرين متتابعين ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للمجامع‏:‏ ‏(‏وصم يوما مكانه‏)‏ رواه أبو داود بإسناده‏,‏ وابن ماجه والأثرم ولأنه أفسد يوما من رمضان فلزمه قضاؤه‏,‏ كما لو أفسده بالأكل أو أفسد صومه الواجب بالجماع فلزمه قضاؤه‏,‏ كغير رمضان‏.‏

المسألة الثانية‏:

أن الكفارة تلزم من جامع في الفرج في رمضان عامدا أنزل أو لم ينزل في قول عامة أهل العلم وحكي عن الشعبي والنخعي‏,‏ وسعيد بن جبير‏:‏ لا كفارة عليه لأن الصوم عبادة لا تجب الكفارة بإفساد قضائها فلا تجب في أدائها كالصلاة ولنا‏:‏ ما روى الزهري‏,‏ عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال‏:‏ بينا نحن جلوس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏إذ جاءه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله هلكت قال ما لك‏؟‏ قال‏:‏ وقعت على امرأتي وأنا صائم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هل تجد رقبة تعتقها‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين‏؟‏ قال‏:‏ لا‏,‏ قال‏:‏ فهل تجد إطعام ستين مسكينا‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فمكث النبي -صلى الله عليه وسلم- فبينا نحن على ذلك أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر والعرق‏:‏ المكتل فقال‏:‏ أين السائل‏؟‏ فقال‏:‏ أنا‏,‏ قال‏:‏ خذ هذا فتصدق به فقال الرجل‏:‏ على أفقر مني يا رسول الله‏؟‏ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه ثم قال‏:‏ أطعمه أهلك‏)‏ متفق عليه ولا يجوز اعتبار الأداء في ذلك بالقضاء لأن الأداء يتعلق بزمن مخصوص يتعين به‏,‏ والقضاء محله الذمة والصلاة لا يدخل في جبرانها المال بخلاف مسألتنا‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏

أن الجماع دون الفرج‏,‏ إذا اقترن به الإنزال فيه عن أحمد روايتان إحداهما عليه الكفارة‏,‏ وهذا قول مالك وعطاء والحسن وابن المبارك وإسحاق لأنه فطر بجماع‏,‏ فأوجب الكفارة كالجماع في الفرج والثانية‏:‏ لا كفارة فيه وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة لأنه فطر بغير جماع تام‏,‏ فأشبه القبلة ولأن الأصل عدم وجوب الكفارة ولا نص في وجوبها ولا إجماع ولا قياس‏,‏ ولا يصح القياس على الجماع في الفرج لأنه أبلغ بدليل أنه يوجبها من غير إنزال ويجب به الحد إذا كان محرما‏,‏ ويتعلق به اثنا عشر حكما ولأن العلة في الأصل الجماع بدون الإنزال والجماع ها هنا غير موجب فلم يصح اعتباره به‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏

أنه جامع ناسيا‏,‏ فظاهر المذهب أنه كالعامد نص عليه أحمد وهو قول عطاء وابن الماجشون وروى أبو داود عن أحمد‏,‏ أنه توقف عن الجواب وقال‏:‏ أجبن أن أقول فيه شيئا وأن أقول ليس عليه شيء قال‏:‏ سمعته غير مرة لا ينفذ له فيه قول ونقل أحمد بن القاسم عنه‏:‏ كل أمر غلب عليه الصائم‏,‏ ليس عليه قضاء ولا غيره قال أبو الخطاب‏:‏ هذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة مع الإكراه والنسيان وهو قول الحسن ومجاهد والثوري‏,‏ والشافعي وأصحاب الرأي لأنه معنى حرمه الصوم فإذا وجد منه مكرها أو ناسيا‏,‏ لم يفسده كالأكل وكان مالك والأوزاعي والليث‏,‏ يوجبون القضاء دون الكفارة لأن الكفارة لرفع الإثم وهو محطوط عن الناسي ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الذي قال‏:‏ وقعت على امرأتي بالكفارة ولم يسأله عن العمد‏,‏ ولو افترق الحال لسأل واستفصل ولأنه يجب التعليل بما تناوله لفظ السائل وهو الوقوع على المرأة في الصوم ولأن السؤال كالمعاد في الجواب‏,‏ فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏(‏من وقع على أهله في رمضان فليعتق رقبة‏)‏ فإن قيل‏:‏ ففي الحديث ما يدل على العمد وهو قوله‏:‏ هلكت وروي‏:‏ احترقت قلنا‏:‏ يجوز أن يخبر عن هلكته لما يعتقده في الجماع مع النسيان من إفساد الصوم وخوفه من غير ذلك‏,‏ ولأن الصوم عبادة تحرم الوطء فاستوى فيها عمده وسهوه كالحج‏,‏ ولأن إفساد الصوم ووجوب الكفارة حكمان يتعلقان بالجماع لا تسقطهما الشبهة فاستوى فيهما العمد والسهو‏,‏ كسائر أحكامه‏.‏

فصل‏:‏

ولا فرق بين كون الفرج قبلا أو دبرا من ذكر أو أنثى وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة في أشهر الروايتين عنه‏:‏ لا كفارة في الوطء في الدبر لأنه لا يحصل به الإحلال ولا الإحصان‏,‏ فلا يوجب الكفارة كالوطء دون الفرج ولنا أنه أفسد صوم رمضان بجماع في الفرج فأوجب الكفارة‏,‏ كالوطء وأما الوطء دون الفرج فلنا فيه منع‏,‏ وإن سلمنا فلأن الجماع دون الفرج لا يفسد الصوم بمجرده بخلاف الوطء في الدبر‏.‏

فصل‏:‏

فأما الوطء في فرج البهيمة فذكر القاضي أنه موجب للكفارة لأنه وطء في فرج موجب للغسل‏,‏ مفسد للصوم فأشبه وطء الآدمية وفيه وجه آخر لا تجب به الكفارة وذكره أبو الخطاب لأنه لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه‏,‏ فإنه مخالف لوطء الآدمية في إيجاب الحد على إحدى الروايتين وفي كثير من أحكامه ولا فرق بين كون الموطوءة زوجة أو أجنبية أو كبيرة أو صغيرة لأنه إذا وجب بوطء الزوجة‏,‏ فبوطء الأجنبية أولى‏.‏

فصل‏:‏

ويفسد صوم المرأة بالجماع بغير خلاف نعلمه في المذهب لأنه نوع من المفطرات فاستوى فيه الرجل والمرأة‏,‏ كالأكل وهل يلزمها الكفارة‏؟‏ على روايتين إحداهما يلزمها وهو اختيار أبي بكر وقول مالك‏,‏ وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر ولأنها هتكت صوم رمضان بالجماع‏,‏ فوجبت عليها الكفارة كالرجل والثانية لا كفارة عليها قال أبو داود‏:‏ سئل أحمد عن من أتى أهله في رمضان أعليها كفارة‏؟‏ قال‏:‏ ما سمعنا أن على امرأة كفارة وهذا قول الحسن‏,‏ وللشافعي قولان كالروايتين ووجه ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الواطئ في رمضان أن يعتق رقبة ولم يأمر في المرأة بشيء مع علمه بوجود ذلك منها‏,‏ ولأنه حق مال يتعلق بالوطء من بين جنسه فكان على الرجل كالمهر‏.‏

فصل‏:‏

وإن أكرهت المرأة على الجماع فلا كفارة عليها‏,‏ رواية واحدة وعليها القضاء قال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن امرأة غصبها رجل نفسها فجامعها‏,‏ أعليها القضاء‏؟‏ قال‏:‏ نعم قلت‏:‏ وعليها كفارة‏؟‏ قال‏:‏ لا وهذا قول الحسن ونحو ذلك قول الثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وعلى قياس ذلك‏,‏ إذا وطئها نائمة وقال مالك في النائمة‏:‏ عليها القضاء بلا كفارة والمكرهة عليها القضاء والكفارة وقال الشافعي وأبو ثور‏,‏ وابن المنذر‏:‏ إن كان الإكراه بوعيد حتى فعلت كقولنا وإن كان إلجاء لم تفطر وكذلك إن وطئها وهي نائمة ويخرج من قول أحمد - في رواية ابن القاسم - كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره أنه لا قضاء عليها إذا كانت ملجأة أو نائمة لأنها لم يوجد منها فعل‏,‏ فلم تفطر كما لو صب في حلقها ماء بغير اختيارها ووجه الأول أنه جماع في الفرج‏,‏ فأفسد الصوم كما لو أكرهت بالوعيد ولأن الصوم عبادة يفسدها الوطء‏,‏ ففسدت به على كل حال كالصلاة والحج ويفارق الأكل فإنه يعذر فيه بالنسيان‏,‏ بخلاف الجماع‏.‏

فصل‏:‏

فإن تساحقت امرأتان ، فلم ينزلا ، فلا شيء عليهما ‏.‏ وإن أنزلتا ، فسد صومهما ‏.‏ وهل يكون حكمهما حكم المجامع دون الفرج إذا أنزل ، أو لا يلزمهما كفارة بحال ‏؟‏ فيه وجهان ، مبنيان على أن الجماع من المرأة هل يوجب الكفارة ‏؟‏ على روايتين ، وأصح الوجهين ، أنهما لا كفارة عليهما ؛ لأن ذلك ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص عليه ، فيبقى على الأصل ‏.‏ وإن ساحق المجبوب فأنزل ، فحكمه حكم من جامع دون الفرج فأنزل ‏.‏

فصل‏:‏

وإن جامعت المرأة ناسية للصوم فقال أبو الخطاب‏:‏ حكم النسيان حكم الإكراه ولا كفارة عليها فيهما وعليها القضاء لأن الجماع يحصل به الفطر في حق الرجل مع النسيان‏,‏ فكذلك في حق المرأة ويحتمل أن لا يلزمها القضاء لأنه مفسد لا يوجب الكفارة فأشبه الأكل‏.‏

فصل‏:‏

وإن أكره الرجل على الجماع فسد صومه لأنه إذا أفسد صوم المرأة فصوم الرجل أولى وأما الكفارة‏,‏ فقال القاضي‏:‏ عليه الكفارة لأن الإكراه على الوطء لا يمكن لأنه لا يطأ حتى ينتشر ولا ينتشر إلا عن شهوة‏,‏ فكان كغير المكره وقال أبو الخطاب‏:‏ فيه روايتان إحداهما لا كفارة عليه وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة إما أن تكون عقوبة أو ماحية للذنب‏,‏ ولا حاجة إليها مع الإكراه لعدم الإثم فيه ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان‏,‏ وما استكرهوا عليه‏)‏ ولأن الشرع لم يرد بوجوب الكفارة فيه ولا يصح قياسه على ما ورد الشرع فيه لاختلافهما في وجود العذر وعدمه فأما إن كان نائما‏,‏ مثل أن كان عضوه منتشرا في حال نومه فاستدخلته امرأته فقال ابن عقيل‏:‏ لا قضاء عليه ولا كفارة وكذلك إن كان إلجاء مثل أن غلبته في حال يقظته على نفسه وهذا مذهب الشافعي لأنه معنى حرمه الصوم حصل بغير اختياره‏,‏ فلم يفطر به كما لو أطارت الريح إلى حلقه ذبابة وظاهر كلام أحمد أن عليه القضاء لأنه قال في المرأة إذا غصبها رجل نفسها فجامعها‏:‏ عليها القضاء فالرجل أولى ولأن الصوم عبادة يفسدها الجماع‏,‏ فاستوى في ذلك حالة الاختيار والإكراه كالحج ولا يصح قياس الجماع على غيره في عدم الإفساد لتأكده بإيجاب الكفارة‏,‏ وإفساده للحج من بين سائر محظوراته وإيجاب الحد به إذا كان زنا‏.‏

فصل‏:

ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء وقال قتادة‏:‏ تجب على من وطئ في قضاء رمضان لأنه عبادة تجب الكفارة في أدائها‏,‏ فوجبت في قضائها كالحج ولنا أنه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفارة‏,‏ كما لو جامع في صيام الكفارة ويفارق القضاء الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له‏,‏ بخلاف القضاء‏.‏

فصل‏:‏

وإذا جامع في أول النهار ثم مرض أو جن أو كانت امرأة فحاضت أو نفست في أثناء النهار‏,‏ لم تسقط الكفارة وبه قال مالك والليث وابن الماجشون‏,‏ وإسحاق وقال أصحاب الرأي‏:‏ لا كفارة عليهم وللشافعي قولان كالمذهبين واحتجوا بأن صوم هذا اليوم خرج عن كونه مستحقا فلم يجب بالوطء فيه كفارة كصوم المسافر‏,‏ أو كما لو قامت البينة أنه من شوال ولنا‏:‏ أنه معنى طرأ بعد وجوب الكفارة فلم يسقطها كالسفر‏,‏ ولأنه أفسد صوما واجبا في رمضان بجماع تام فاستقرت الكفارة عليه كما لو لم يطرأ عذر‏,‏ والوطء في صوم المسافر ممنوع وإن سلم فالوطء ثم لم يوجب أصلا لأنه وطء مباح‏,‏ في سفر أبيح الفطر فيه بخلاف مسألتنا وكذا إذا تبين أنه من شوال‏,‏ فإن الوطء غير موجب لأنا تبينا أن الوطء لم يصادف رمضان والموجب إنما هو الوطء المفسد لصوم رمضان‏.‏

فصل‏:‏

إذا طلع الفجر وهو مجامع‏,‏ فاستدام الجماع فعليه القضاء والكفارة وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يجب القضاء دون الكفارة لأن وطأه لم يصادف صوما صحيحا‏,‏ فلم يوجب الكفارة كما لو ترك النية وجامع ولنا أنه ترك صوم رمضان بجماع أثم به لحرمة الصوم فوجبت به الكفارة‏,‏ كما لو وطئ بعد طلوع الفجر وعكسه إذا لم ينو فإنه يتركه لترك النية لا الجماع‏,‏ ولنا فيه منع أيضا وأما إن نزع في الحال مع أول طلوع الفجر فقال ابن حامد والقاضي‏:‏ عليه الكفارة أيضا لأن النزع جماع يلتذ به فتعلق به ما يتعلق بالاستدامة‏,‏ كالإيلاج وقال أبو حفص‏:‏ لا قضاء عليه ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه ترك للجماع فلا يتعلق به ما يتعلق بالجماع‏,‏ كما لو حلف لا يدخل دارا وهو فيها فخرج منها كذلك ها هنا وقال مالك‏:‏ يبطل صومه‏,‏ ولا كفارة عليه لأنه لا يقدر على أكثر مما فعله في ترك الجماع فأشبه المكره وهذه المسألة تقرب من الاستحالة إذ لا يكاد يعلم أول طلوع الفجر على وجه يتعقبه النزع‏,‏ من غير أن يكون قبله شيء من الجماع فلا حاجة إلى فرضها والكلام فيها‏.‏

فصل‏:‏

ومن جامع يظن أن الفجر لم يطلع‏,‏ فتبين أنه كان قد طلع فعليه القضاء والكفارة وقال أصحاب الشافعي‏:‏ لا كفارة عليه ولو علم في أثناء الوطء فاستدام فلا كفارة عليه أيضا لأنه إذا لم يعلم لم يأثم‏,‏ فلا يجب به كفارة كوطء الناسي وإن علم فاستدام فقد حصل الوطء الذي يأثم به في غير صوم ولنا حديث المجامع‏,‏ إذ أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتكفير من غير تفريق ولا تفصيل ولأنه أفسد صوم رمضان بجماع تام فوجبت عليه الكفارة‏,‏ كما لو علم ووطء الناسي ممنوع ثم لا يحصل به الفطر على الرواية الأخرى بخلاف مسألتنا‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ والكفارة عتق رقبة‏,‏ فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ‏]‏ المشهور من مذهب أبي عبد الله أن كفارة الوطء في رمضان ككفارة الظهار في الترتيب‏,‏ يلزمه العتق إن أمكنه فإن عجز عنه انتقل إلى الصيام فإن عجز انتقل إلى إطعام ستين مسكينا وهذا قول جمهور العلماء وبه يقول الثوري‏,‏ والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى‏,‏ أنها على التخيير بين العتق والصيام والإطعام وبأيها كفر أجزأه وهو رواية عن مالك لما روى مالك وابن جريج عن الزهري‏,‏ عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ‏(‏أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين‏,‏ أو إطعام ستين مسكينا‏)‏ رواه مسلم و ‏"‏أو‏"‏ حرف تخيير ولأنها تجب بالمخالفة فكانت على التخيير ككفارة اليمين وروي عن مالك‏,‏ أنه قال‏:‏ الذي نأخذ به في الذي يصيب أهله في نهار رمضان إطعام ستين مسكينا أو صيام ذلك اليوم‏,‏ وليس التحرير والصيام من كفارة رمضان في شيء وهذا القول ليس بشيء لمخالفته الحديث الصحيح مع أنه ليس له أصل يعتمد عليه ولا شيء يستند إليه‏,‏ وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحق أن تتبع وأما الدليل على وجوب الترتيب فالحديث الصحيح رواه معمر ويونس‏,‏ والأوزاعي والليث وموسى بن عقبة‏,‏ وعبيد الله بن عمر وعراك بن مالك وإسماعيل بن أمية‏,‏ ومحمد بن أبي عتيق وغيرهم عن الزهري‏,‏ عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ‏(‏قال للواقع على أهله‏:‏ هل تجد رقبة تعتقها‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فهل تجد إطعام ستين مسكينا‏؟‏ قال‏:‏‏)‏ لا وذكر سائر الحديث وهذا لفظ الترتيب‏,‏ والأخذ بهذا أولى من رواية مالك لأن أصحاب الزهري اتفقوا على روايته هكذا سوى مالك وابن جريج فيما علمنا‏,‏ واحتمال الغلط فيهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه ولأن الترتيب زيادة والأخذ بالزيادة متعين ولأن حديثنا لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- وحديثهم لفظ الراوي ويحتمل أنه رواه بـ ‏"‏أو‏"‏ لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء‏,‏ ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكانت على الترتيب ككفارة الظهار والقتل‏.‏

فصل‏:‏

فإذا عدم الرقبة‏,‏ انتقل إلى صيام شهرين متتابعين ولا نعلم خلافا في دخول الصيام في كفارة الوطء إلا شذوذا لا يعرج عليه‏,‏ لمخالفة السنة الثابتة ولا خلاف بين من أوجبه أنه شهران متتابعان للخبر أيضا فإن لم يشرع في الصيام حتى وجد الرقبة لزمه العتق لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل المواقع عما يقدر عليه حين أخبره بالعتق‏,‏ ولم يسأله عما كان يقدر عليه حالة المواقعة وهي حالة الوجوب ولأنه وجد المبدل قبل التلبس بالبدل‏,‏ فلزمه كما لو كان واجدا له حال الوجوب وإن شرع في الصوم قبل القدرة على الإعتاق ثم قدر عليه‏,‏ لم يلزمه الخروج إليه إلا أن يشاء العتق فيجزئه ويكون قد فعل الأولى وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة‏:‏ يلزمه الخروج لأنه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل‏,‏ فبطل حكم المبدل كالمتيمم يرى الماء ولنا أنه شرع في الكفارة الواجبة عليه فأجزأته‏,‏ كما لو استمر العجز إلى فراغها وفارق العتق التيمم لوجهين‏:‏ أحدهما أن التيمم لا يرفع الحدث‏,‏ وإنما يستره فإذا وجد الماء ظهر حكمه بخلاف الصوم‏,‏ فإنه يرفع حكم الجماع بالكلية الثاني أن الصيام تطول مدته فيشق إلزامه الجمع بينه وبين العتق‏,‏ بخلاف الوضوء والتيمم‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير ‏]‏ لا نعلم خلافا بين أهل العلم في دخول الإطعام في كفارة الوطء في رمضان في الجملة‏,‏ وهو مذكور في الخبر والواجب فيه إطعام ستين مسكينا في قول عامتهم‏,‏ وهو في الخبر أيضا ولأنه إطعام في كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكان إطعام ستين مسكينا ككفارة الظهار واختلفوا في قدر ما يطعم كل مسكين فذهب أحمد إلى أن لكل مسكين مد بر‏,‏ وذلك خمسة عشر صاعا أو نصف صاع من تمر أو شعير فيكون الجميع ثلاثين صاعا وقال أبو حنيفة من البر لكل مسكين نصف صاع‏,‏ ومن غيره صاع لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث سلمة بن صخر‏:‏ ‏(‏فأطعم وسقا من تمر‏)‏ رواه أبو داود وقال أبو هريرة‏:‏ يطعم مدا من أي الأنواع شاء وبهذا قال عطاء والأوزاعي والشافعي لما روى أبو هريرة‏,‏ في حديث المجامع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى بمكتل من تمر قدره خمسة عشر صاعا‏,‏ فقال‏:‏ ‏(‏خذ هذا فأطعمه عنك‏)‏ رواه أبو داود ولنا ما روى أحمد حدثنا إسماعيل‏,‏ حدثنا أيوب عن أبي يزيد المدني قال‏:‏ ‏(‏جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمظاهر‏:‏ أطعم هذا‏,‏ فإن مدي شعير مكان مد بر‏)‏ ولأن فدية الأذى نصف صاع من التمر والشعير بلا خلاف فكذا هذا والمد من البر يقوم مقام نصف صاع من غيره‏,‏ بدليل حديثنا ولأن الإجزاء بمد منه قول ابن عمر وابن عباس‏,‏ وأبي هريرة وزيد ولا مخالف لهم في الصحابة وأما حديث سلمة بن صخر فقد اختلف فيه‏,‏ وحديث أصحاب الشافعي يجوز أن يكون الذي أتي به النبي -صلى الله عليه وسلم- قاصرا عن الواجب فاجتزئ به لعجز المكفر عما سواه‏.‏

فصل‏:‏

فإن أخرج من الدقيق أو السويق أجزأ ؛ لما ذكرناه فيما تقدم ‏.‏ وإن غدى المساكين أو عشاهم ، لم يجزئه ، في أظهر الروايتين عنه ‏.‏ وهو ظاهر كلام الخرقي ؛ لأنه قدر ما يجزئ في الدفع بمد أو نصف صاع ، وإذا أطعمهم لا يعلم أن كل واحد منهم استوفى الواجب له ، ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين قدر ما يطعمه كل مسكين بما ذكرنا من الأحاديث ، وهي مقيدة لمطلق الإطعام المذكور ، والمطلق يحمل على المقيد ، ولا يعلم أن كل مسكين استوفى ما يجب له ، ولأن الواجب تمليك المسكين طعامه ، والإطعام إباحة ، وليس بتمليك ‏.‏ فعلى هذه الرواية ؛ إن أفرد لكل مسكين قدر الواجب له ، فأطعمه إياه ، نظرت ؛ فإن قال ‏:‏ هذا لك تتصرف فيه كيف شئت ‏.‏ أجزأه ؛ لأنه قد ملكه إياه ‏.‏ وإن لم يقل له شيئا ، احتمل أن يجزئه ؛ لأنه قد أطعمه ما يجب له ، فأشبه ما لو ملكه ، واحتمل أن لا يجزئه ؛ لأنه لم يملكه إياه ‏.‏ والرواية الثانية ، يجزئه أن يجمع ستين مسكينا فيطعمهم ‏.‏ قال أبو داود ‏:‏ سمعت أحمد يسأل عن امرأة أفطرت رمضان ، ثم أدركها رمضان آخر ، ثم ماتت ‏.‏ قال ‏:‏ كم أفطرت ‏؟‏ قال ‏:‏ ثلاثين يوما ‏.‏ قال ‏:‏ فاجمع ثلاثين مسكينا ، وأطعمهم مرة واحدة ، وأشبعهم ‏.‏ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمجامع ‏:‏ ‏(‏ أطعم ستين مسكينا ‏)‏ ‏.‏ وهذا قد أطعمهم ، وقال الله تعالى ‏{‏ فإطعام ستين مسكينا ‏}‏ ‏.‏ وقال في كفارة اليمين ‏:‏ ‏{‏ إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ‏}‏ ‏.‏ وهذا قد أطعمهم ‏.‏ وروي عن أنس ، أنه أفطر في رمضان ، فجمع المساكين ، ووضع جفانا فأطعمهم ‏.‏ ولأنه أطعم ستين مسكينا فأجزأه ، كما لو ملكه إياه ‏.‏ فعلى هذه الرواية ، إن أطعمهم قدر الواجب لهم أجزأه ، وإن أطعمهم دون ذلك فأشبعهم ، فظاهر كلام أحمد أنه يجزئه ؛ لأنه قد أطعمهم ‏.‏ ويحتمل أن لا يجزئه ؛ لأنه لم يطعمهم ما وجب لهم ‏.‏

فصل‏:‏

ويجزئ في الكفارة ما يجزئ في الفطرة من البر والشعير ودقيقهما‏,‏ والتمر والزبيب وفي الأقط وجهان وفي الخبز روايتان‏,‏ وكذلك يخرج في السويق فإن كان قوته غير ذلك من الحبوب كالدخن والذرة‏,‏ والأرز ففيه وجهان أحدهما لا يجزئ ذكره القاضي لأنه لا يجزئ في الفطرة والثاني‏,‏ يجزئ اختاره أبو الخطاب لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏من أوسط ما تطعمون أهليكم‏}‏ ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بالإطعام مطلقا ولم يرد تقييده بشيء من الأجناس فوجب إبقاؤه على إطلاقه‏,‏ ولأنه أطعم المسكين من طعامه فأجزأه كما لو كان طعامه برا فأطعمه منه‏,‏ وهذا أظهر‏.‏

فصل‏:‏

وإن عجز عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفارة عنه في إحدى الروايتين‏,‏ بدليل أن الأعرابي لما دفع إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- التمر وأخبره بحاجته إليه قال‏:‏ ‏(‏أطعمه أهلك‏)‏ ولم يأمره بكفارة أخرى وهذا قول الأوزاعي وقال الزهري‏:‏ لا بد من التكفير‏,‏ وهذا خاص لذلك الأعرابي لا يتعداه بدليل أنه أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعساره قبل أن يدفع إليه العرق‏,‏ ولم يسقطها عنه ولأنها كفارة واجبة فلم تسقط بالعجز عنها‏,‏ كسائر الكفارات وهذا رواية ثانية عن أحمد وهو قياس قول أبي حنيفة والثوري‏,‏ وأبي ثور وعن الشافعي كالمذهبين ولنا الحديث المذكور ودعوى التخصيص لا تسمع بغير دليل وقولهم‏:‏ إنه أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعجزه فلم يسقطها قلنا‏:‏ قد أسقطها عنه بعد ذلك وهذا آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح القياس على سائر الكفارات لأنه اطراح للنص بالقياس‏,‏ والنص أولى والاعتبار بالعجز في حالة الوجوب وهي حالة الوطء‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإن جامع‏,‏ فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة ‏]‏ وجملته أنه إذا جامع ثانيا قبل التكفير عن الأول لم يخل من أن يكون في يوم واحد‏,‏ أو في يومين فإن كان في يوم واحد فكفارة واحدة تجزئه‏,‏ بغير خلاف بين أهل العلم وإن كان في يومين من رمضان ففيه وجهان أحدهما‏,‏ تجزئه كفارة واحدة وهو ظاهر إطلاق الخرقي واختيار أبي بكر ومذهب الزهري‏,‏ والأوزاعي وأصحاب الرأي لأنها جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فيجب أن تتداخل كالحد والثاني‏:‏ لا تجزئ واحدة‏,‏ ويلزمه كفارتان اختاره القاضي وبعض أصحابنا وهو قول مالك والليث‏,‏ والشافعي وابن المنذر وروي ذلك عن عطاء ومكحول لأن كل يوم عبادة منفردة‏,‏ فإذا وجبت الكفارة بإفساده لم تتداخل كرمضانين وكالحجتين‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإن كفر‏,‏ ثم جامع ثانية فكفارة ثانية ‏]‏ وجملته أنه إذا كفر ثم جامع ثانية‏,‏ لم يخل من أن يكون في يوم واحد أو في يومين فإن كان في يومين‏,‏ فعليه كفارة ثانية بغير خلاف نعلمه وإن كان في يوم واحد فعليه كفارة ثانية نص عليه أحمد وكذلك يخرج في كل من لزمه الإمساك وحرم عليه الجماع في نهار رمضان وإن لم يكن صائما‏,‏ مثل من لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامدا‏,‏ ثم جامع فإنه يلزمه كفارة وقال أبو حنيفة ومالك‏,‏ والشافعي‏:‏ لا شيء عليه بذلك الجماع لأنه لم يصادف الصوم ولم يمنع صحته فلم يوجب شيئا‏,‏ كالجماع في الليل ولنا أن الصوم في رمضان عبادة تجب الكفارة بالجماع فيها فتكررت بتكرر الوطء إذا كان بعد التكفير كالحج‏,‏ ولأنه وطء محرم لحرمة رمضان فأوجب الكفارة كالأول وفارق الوطء في الليل‏,‏ فإنه غير محرم فإن قيل‏:‏ الوطء الأول تضمن هتك الصوم وهو مؤثر في الإيجاب فلا يصح إلحاق غيره به قلنا‏:‏ هو ملغي بمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام‏,‏ فإنه تلزمه الكفارة مع أنه لم يهتك الصوم‏.‏

فصل‏:

إذا أصبح مفطرا يعتقد أنه من شعبان فقامت البينة بالرؤية‏,‏ لزمه الإمساك والقضاء في قول عامة الفقهاء إلا ما روي عن عطاء أنه قال‏:‏ يأكل بقية يومه قال ابن عبد البر‏:‏ لا نعلم أحدا قاله غير عطاء وذكر أبو الخطاب ذلك رواية عن أحمد ولا أعلم أحدا ذكرها غيره‏,‏ وأظن هذا غلطا فإن أحمد قد نص على إيجاب الكفارة على من وطئ ثم كفر ثم عاد فوطئ في يومه لأن حرمة اليوم لم تذهب فإذا أوجب الكفارة على غير الصائم لحرمة اليوم فكيف يبيح الأكل‏,‏ ولا يصح قياس هذا على المسافر إذا قدم وهو مفطر وأشباهه لأن المسافر كان له الفطر ظاهرا وباطنا وهذا لم يكن له الفطر في الباطن مباحا فأشبه من أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع فإذا تقرر هذا‏,‏ فإن جامع فيه فعليه القضاء والكفارة كالذي أصبح لا ينوي الصيام‏,‏ أو أكل ثم جامع وإن كان جماعه قبل قيام البينة فحكمه حكم من جامع يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع على ما مضى فيه‏.‏

فصل‏:

وكل من أفطر والصوم لازم له كالمفطر بغير عذر‏,‏ والمفطر يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أو الناسي لنية الصوم‏,‏ ونحوهم يلزمهم الإمساك لا نعلم بينهم فيه اختلافا إلا أنه يخرج على قول عطاء في المعذور في الفطر إباحة فطر بقية يومه‏,‏ قياسا على قوله فيما إذا قامت البينة بالرؤية وهو قول شاذ لم يعرج عليه أهل العلم‏.‏

فصل‏:

فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا كالحائض والنفساء والمسافر‏,‏ والصبي والمجنون والكافر‏,‏ والمريض إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار فطهرت الحائض والنفساء‏,‏ وأقام المسافر وبلغ الصبي وأفاق المجنون‏,‏ وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان إحداهما‏,‏ يلزمهم الإمساك في بقية اليوم وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي‏,‏ والحسن بن صالح والعنبري لأنه معنى لو وجد قبل الفجر أوجب الصيام فإذا طرأ بعد الفجر أوجب الإمساك‏,‏ كقيام البينة بالرؤية والثانية لا يلزمهم الإمساك وهو قول مالك والشافعي وروي ذلك عن جابر بن زيد‏,‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ من أكل أول النهار فليأكل آخره ولأنه أبيح له فطر أول النهار ظاهرا وباطنا فإذا أفطر كان له أن يستديمه إلى آخر النهار كما لو دام العذر فإذا جامع أحد هؤلاء‏,‏ بعد زوال عذره انبنى على الروايتين في وجوب الإمساك فإن قلنا‏:‏ يلزمه الإمساك فحكمه حكم من قامت البينة بالرؤية في حقه إذا جامع وإن قلنا‏:‏ لا يلزمه الإمساك فلا شيء عليه فإن كان أحد الزوجين من أحد هؤلاء والآخر لا عذر له‏,‏ فلكل واحد حكم نفسه على ما مضى وإن كانا جميعا معذورين فحكمهما ما ذكرناه سواء اتفق عذرهما‏,‏ مثل أن يقدما من سفر أو يصحا من مرض أو اختلف‏,‏ مثل أن يقدم الزوج من سفر وتطهر المرأة من الحيض فيصيبها وقد روي عن جابر بن يزيد أنه قدم من سفر‏,‏ فوجد امرأته قد طهرت من حيض فأصابها فأما إن نوى الصوم في سفره أو مرضه أو صغره ثم زال عذره في أثناء النهار‏,‏ لم يجز له الفطر رواية واحدة وعليه الكفارة إن وطئ وقال بعض أصحاب الشافعي‏,‏ في المسافر خاصة‏:‏ وجهان أحدهما له الفطر لأنه أبيح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا فكانت له استدامته‏,‏ كما لو قدم مفطرا وليس بصحيح فإن سبب الرخصة زال قبل الترخص فلم يكن له ذلك كما لو قدمت به السفينة قبل قصر الصلاة‏,‏ وكالمريض يبرأ والصبي يبلغ وهذا ينقض ما ذكروه ولو علم الصبي أنه يبلغ في أثناء النهار بالسن أو علم المسافر أنه يقدم‏,‏ لم يلزمهما الصيام قبل زوال عذرهما لأن سبب الرخصة موجود فيثبت حكمها كما لو لم يعلما ذلك‏.‏

فصل‏:‏

ويلزم المسافر والحائض والمريض القضاء‏,‏ إذا أفطروا بغير خلاف لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏}‏ والتقدير‏:‏ فأفطر وقالت عائشة‏:‏ كنا نحيض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنؤمر بقضاء الصوم وإن أفاق المجنون أو بلغ الصبي‏,‏ أو أسلم الكافر في أثناء النهار والصبي مفطر‏,‏ ففي وجوب القضاء روايتان إحداهما لا يلزمهم ذلك لأنهم لم يدركوا وقتا يمكنهم التلبس بالعبادة فيه فأشبه ما لو زال عذرهم بعد خروج الوقت والثانية‏:‏ يلزمهم القضاء لأنهم أدركوا بعض وقت العبادة‏,‏ فلزمهم القضاء كما لو أدركوا بعض وقت الصلاة‏.‏

مسألة‏:‏

قال‏:‏ ‏[‏ وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع‏,‏ أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء ‏]‏ هذا قول أكثر أهل العلم من الفقهاء وغيرهم وحكي عن عروة‏,‏ ومجاهد والحسن وإسحاق‏:‏ لا قضاء عليهم لما روى زيد بن وهب قال‏:‏ كنت جالسا في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان‏,‏ في زمن عمر بن الخطاب فأتينا بعساس فيها شراب من بيت حفصة فشربنا‏,‏ ونحن نرى أنه من الليل ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة قال‏:‏ فجعل الناس يقولون‏:‏ نقضي يوما مكانه فقال عمر‏:‏ والله لا نقضيه‏,‏ ما تجانفنا لإثم ولأنه لم يقصد الأكل في الصوم فلم يلزمه القضاء كالناسي ولنا أنه أكل مختارا‏,‏ ذاكرا للصوم فأفطر كما لو أكل يوم الشك‏,‏ ولأنه جهل بوقت الصيام فلم يعذر به كالجهل بأول رمضان‏,‏ ولأنه يمكن التحرز منه فأشبه أكل العامد وفارق الناسي‏,‏ فإنه لا يمكن التحرز منه وأما الخبر فرواه الأثرم أن عمر قال‏:‏ من أكل فليقض يوما مكانه ورواه مالك في ‏"‏الموطأ‏"‏ أن عمر قال‏:‏ الخطب يسير يعني خفة القضاء وروى هشام بن عروة عن فاطمة امرأته عن أسماء قالت‏:‏ ‏(‏أفطرنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام‏:‏ أمروا بالقضاء‏؟‏ قال‏:‏ لا بد من قضاء‏؟‏‏)‏ أخرجه البخاري‏.‏

فصل‏:‏

وإن أكل شاكا في طلوع الفجر‏,‏ ولم يتبين الأمر فليس عليه قضاء وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر نص عليه أحمد وهذا قول ابن عباس‏,‏ وعطاء والأوزاعي والشافعي‏,‏ وأصحاب الرأي وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق وابن عمر رضي الله عنهم وقال مالك يجب القضاء لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته‏,‏ فلا يسقط بالشك ولأنه أكل شاكا في النهار والليل فلزمه القضاء‏,‏ كما لو أكل شاكا في غروب الشمس ولنا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ مد الأكل إلى غاية التبين وقد يكون شاكا قبل التبين فلو لزمه القضاء لحرم عليه الأكل‏,‏ وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم‏)‏ وكان رجلا أعمى‏,‏ لا يؤذن حتى يقال له‏:‏ أصبحت أصبحت ولأن الأصل بقاء الليل فيكون زمان الشك منه ما لم يعلم يقين زواله بخلاف غروب الشمس‏,‏ فإن الأصل بقاء النهار فبني عليه‏.‏

فصل‏:‏

وإن أكل شاكا في غروب الشمس ولم يتبين‏,‏ فعليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار وإن كان حين الأكل ظانا أن الشمس قد غربت أو أن الفجر لم يطلع ثم شك بعد الأكل‏,‏ ولم يتبين فلا قضاء عليه لأنه لم يوجد يقين أزال ذلك الظن الذي بنى عليه فأشبه ما لو صلى بالاجتهاد‏,‏ ثم شك في الإصابة بعد صلاته‏.‏